stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

إنسانية وتربوية

نظرة مسيحية للشيخوخة- الدكتور الأنبا يوحنا قلته

1.3kviews

vecنظرة مسيحية للشيخوخة- الدكتور الأنبا يوحنا قلته

ملاحظات للتفكير

1) هبة الحياة،

برغم ما يشوبها من تعب وعناء، هي أجمل وأثمن من أن نتعب منها أو نمل من مسيرتها، أن الزمان يهرب دون رجعة، والإنسان مغامر غائص في الزمان، ولئن كانت الحياة هذه المغامرة الرائعة تخضع للزمان إلا أن الإيمان بالله، وباليوم الآخر، وضعها في إطار الخلود، لأن الإيمان يربط النهاية بالبداية أي يربط بين الإنسان والله… إن كان فجر الألفية الثالثة للميلاد قد اكتسى بلون قاتم، صبغته عليه أحداث جسام وتفجر الصراع في مناطق كثيرة من العالم، إلا أن ذلك اللون الدموي لا يمكن أن يخفي بوادر أمل مشرق، فإن المحن لا تقوض الرجاء بل تشكل أساساً له، فبالرغم من كل التناقضات على الساحة الإنسانية إلا أن نمواً حدث في الوعي بحقوق واحترام حياة الإنسان، كما تنامى الحس بحق الشعوب في الحرية والعدالة الاجتماعية، كما أننا نقدر كهبة كبيرة من الله الخالق أن الأديان تجتهد بعزم متزايد متصل في النهضة بالحوار فيما بينها، لتكون عنصراً أساسياً في بناء السلام ووحدة الأسرة البشرية. كما أن الاهتمام بالشيخوخة أضحى شاغلاً للأمم، ومن ثم فأن حقيقة انقضاء الزمن ومسيرة العمر، أمر لا يدعنا نستسلم لقدر محتوم بل لكي نعطي لما تبقى من سنوات العمر القيمة الكاملة.

2) ما هي الشيخوخة ؟

أطلق عليها شيشرون “خريف الحياة”، استوحى العبارة من توالى فصول الطبيعة، من مشاهد البحار والجبال والأشجار، والتشابه وثيق بين إيقاعات الحياة البشرية وحلقات دوران الطبيعة التي منها دورة الخريف، لكن الإنسان يتميز بأنه كائن واعٍ ومسؤول، أبدعه خالقه وفيه نفخة إلهية روحية مقدسة، فإن كان يعيش المراحل المتتالية العابرة التي تعيشها الطبيعة إلا أنه يعيش البعد الإيماني والروحي، مما يضفي على شيخوخته معنى روحياً متميزاً عن قانون الطبيعة في سائر المخلوقات. وإن كان صحيحاً أن الطفولة والشباب يشكلان بالنسبة إلى الإنسان مرحلة التكوين والمستقبل الواعد، والطموح البراق، فالشيخوخة أيضاً لا تنقصها بعض المميزات، فهي إذ تخفف من حدة الشهوات “تنمي الحكمة” وتقدم خبرة أكثر فطنة، فالزمان معلم كبير، وكان داود النبي علية السلام يصلي قائلاً: “علمنا – يارب – أن أيامنا معدودة فتملأ قلوبنا بالحكمة” (مز 90) والمسيحية في كتابها المقدس، بعهديه القديم والجديد، تحافظ على نظرة إيجابية عميقة جداً إلى قيمة الحياة، بكل مراحلها، إن الإنسان هو المخلوق السامي بين الكائنات، خلقه الله على صورته بمعنى أنه وهبه العقل والحرية والإرادة (تك 1: 26) ويعتبر طول العمر، نعمة من الخالق (تك 11) يبارك الله أبانا إبراهيم عليه السلام يقول له الخالق: “سأجعلك أمة عظمة وأباركك وأعظم أسمك وتتبارك بك جميع عشائر الأرض” (تك 12).

وفي الإنجيل أو العهد الجديد، تبدأ كلماته عن زوجين متقدمين في العمر اليصابات والنبي زكريا – عليه السلام – والدي (يحي) أو يوحنا المعمدان، وبالرغم من إقرار زكريا أنه شيخ كبير وامرأته تخطت سبيل النساء إلا أنهما يرزقان بنبي جليل في مرحلة الشيخوخة، رحمة من الله وإقراراً بعظمة الخالق. ففي المسيحية تظهر الشيخوخة “كزمن ملائم” للحكمة وتدخل في صميم إرادة الخالق لخلق الإنسان، الذي يشيخ فيمتلأ فهماً لمعنى الحياة بشكل أفضل ويبلغ حكمة القلب، فهي المرحلة الأخيرة من النضج البشري، وهي نعمة سخية من لدن الخالق تستحق هذه المرحلة التكريم.

3) الشيخوخة هي حارسة الذاكرة الجماعية،

إن كانت الحضارة المعاصرة قد نهضت بالمسؤولية تجاه الشيخوخة، فانتشرت بيوت المسنين تحتضن من يلجأ إليها ليمض في حياة كريمة، إلا أن هذه الحضارة قد نادت بمبدأ خطير للتخلص من الشيخوخة وهو الدعوة لما يسمى “بالموت الرحيم” كحل للحالات المستعصية على الشفاء حتى بدا حلاً معقولاً عند من فقد الحس الأخلاقي لمفهوم هبة الحياة، والحس الروحي لمن يحمل رسالة الألم، أن الشريعة الأخلاقية تسمح بالتخلي عما يدعى “العناد العلاجي” أو اتخاذ وسائل طبية التي تهدف إلى تخفيف الألم، أما الموت الرحيم فهو أمر مختلف تماماً إذ هو يهدف إلى القتل أو إلى الموت مباشرة وبالرغم من إحاطته بالنيات الحسنة وفي الظروف القاسية، إلا أنه يظل عملاً شريراً في جوهره وخرقاً للشريعة الإلهية وإساءة إلى كرامة الشخص البشري. فمن الواجب أن نضع أنفسنا في الرؤية الصحيحة للحياة بشموليتها ومجملها، والحياة يجب النظر إليها بمنظار الإيمان بحياة أبدية، وكل مرحلة بما فيها مرحلة الشيخوخة هي استعداد لمرحلة الخلود، وللشيخوخة دور في سياق هذا التدرج في النضج في مسيرة الإنسان نحو مصدره وخالقه، أن المسنين يساعدون البشرية على السير بحكمة بعد أن زودتهم الحياة بالخبرة والنضج، أنهم حراس الذاكرة الجماعية، ومن ثم فهم أولى من يعبر عن القيم والمثل المشتركة التي تنظم التعايش الاجتماعي، فاستبعادهم هو رفض للماضي حيث يتجذر فيه الحاضر بدعوى أن العالم المعاصر لا يحتاج إلى ذاكرة الماضي، فالمسنون بفضل خبرتهم يمكن أن يقدموا للشباب الحكمة والرؤية الصحيحة، كما أن الاهتمام بالشيخوخة يعمق الترابط والتضامن لتوحيد مسيرة الأجيال فكل إنسان محتاج إلى الإنسان الآخر، وكل جيل يحتاج إلى الجيل الآخر وقد صدق قول أحد الشعراء وهو (NORWID) “أجل إن الماضي يخص الأبدية، فكل الذي مضى لن يعود فجأة كما كان، إنه سيعود كفكرة لكنه لن يعود هو نفسه”.

4) إكرام المسنين قيمة إنسانية أصيلة،

المسيحية تنطلق من الوصايا العشر التي تسلمها موسى النبي عليه السلام، والوصية الرابعة تقول: “أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك” (خر20، تث 5) “وقم احتراماً للأشيب وأكرم وجه الشيخ” (لا 19) يتماشى الكتاب المقدس مع قيمة عريقة ضاربة الجذور في حضارات الأمم أنه توثيق العلاقة القائمة بين الأجيال، فاحترام المسنين علاوة على أنه وصية إلهية هو واجب إنساني يتحقق في قبول امتداد أعمارهم ومساعدتهم والاعتراف بجميلهم، وكلها أمور تمارس في تقاليدنا الشرقية بسلوك طبيعي، وإن كانت حضارة العصر وبخاصة في الأمم المتقدمة اقتصادياً قد أعطت للمسنين أهمية ببناء دور لهم لكن ذلك لا يعني أن يتركوا كمن لا منفعة منه وقد أشار شيشرون منذ القدم أن ثقل الأيام يصبح محتملاً إذا أحيط بحب الشباب والأسرة، وقد يشيخ الجسد وتتبدد طاقته بفعل الزمن لكن الروح لا تشيخ، بل الإنسان المؤمن يتقبل انحلال الجسد وفق قانون الطبيعة لكنه يستعد للانتقال إلى حياة ما بعد الحياة حيث الاكتمال الإنساني والنضج فلا شيخوخة بل يحصل الإنسان على كمال العمر الروحي. وأحياناً يبهر الإنسان بأناس يتوهجون في شيخوختهم كأنهم مكتبات حية متنقلة وكحراس للحكمة والتراث النفيس ولهم خبرتهم الإنسانية والروحية، فهم بحاجة إلى المساعدة الصحية كما أنهم في عون للأجيال الصاعدة، والكتاب المقدس يذكر: “ما أجمل حكمة الشيوخ، وإن وجدت حكيماً فلازمه، وأحضر يا بني مجالس الشيوخ” (سيراخ 8، 25) وكثيراً ما نلتقي بمسنين مرضى وحيدين لكنهم قادرون على إعطاء شهادة الإيمان بصلاتهم وتقبل الألم في صبر، أن المكان الملائم تماماً لحاجة المسنين في زعمنا كي يعيشوا حالة الشيخوخة بأمان هو الإطار الذي يشعرون فيه أنهم في “عائلتهم” في بيتهم، بين معارفهم وأصدقائهم، ويمكنهم أن يؤدوا على قدر المستطاع خدمات إنسانية رائعة، ومن ثم ينبغي تشجيع الثقافة التي تقول بقبول الشيخوخة وإكرامها، وبالطبع من الأفضل أن يظل المسنون في عائلاتهم مع تأمين كل مساعدة اجتماعية ممكنة، وهذا ليس معناه أن دخول بعض المسنين إلى دور خاصة بهم أمر غير مستحب بل على العكس إذا فرضت الظروف أن يعيش المسنون فيها تكون قد وفرت لهم التمتع برفقة أشخاص وبمساعدة متخصصة فهذه المؤسسات تستحق التقدير، كما ينبغي أن يمد المجتمع يد المساعدة للمؤسسات التي تعتني عناية خاصة بالمسنين الفقراء والمهملين والذين لا يرعاهم أحد.

5) بقيت ملاحظة أختم بها وهي

كلمات توجه إلى آبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا من المسنين ونقول لهم، أن فكرة الشيخوخة وما تحويه من تداعي قوى الجسد أمر طبيعي من صميم القوانين الطبيعية التي هي من سنن الخالق الأبدي، وعلى الإنسان أن يتقبل هذا التطور بإيمان عميق، فإذا كانت الحياة هي الحج نحو الوطن السماوي فأن الشيخوخة هي الحقبة التي تخطو بنا طبيعياً إلى عتبة عالم الله، ولا ينبغي الاستسلام في يأس لارتقاب النهاية برغم ما يحيط بها من غموض، إلا أن الإيمان بالله وبالمصير إلى الله يمكن إذا توهج في الأعماق فأن لغز الوضع البشري يبلغ قمته أمام حقيقة الموت، والإيمان يمدنا بطاقة لا تنفذ قوتها لمواجهة قوانين الطبيعة، أننا أدركنا بالعلم وقوانينه أن لا فناء في الكون، وأن الحياة ليست عبثاً أو ضربة لازب، وأن الإنسان ليس مدعوا للعدم بل لحياة بعد الحياة، يؤكد المسيح له المجد في إنجيله:  “أنا هو القيامة والحياة من آمن بي ولو مات فسيحيا وكل من يحيا مؤمناً بي لا يموت أبداً” (يو11) فقد صعد المسيح إلى السماء أو بعث حياً، مما يؤكد الإيمان بأن هناك حياة بعد الحياة، وكل الأديان تؤكد الرجاء، فالإيمان ينير سر الحياة ولغز الموت، ويعطي للشيخوخة معنى وصفاء، فهي ليست انتظاراً سلبياً لحدث مدمر بل تُعاش كوعد إلهي ببلوغ النضج الروحي الكامل، أنها سنوات ينبغي أن تعاش بإيمان هادئ عميق يضع الإنسان فيها حياته وعمره بين يدي الخالق.

——————————

 * نص محاضرة قام نيافته بإلقائها في مؤتمر الدوحة العالمي لرعاية المسنين في ظل التحولات المعاصرة، إبريل 2005.