stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

كتابات القراء

هذا المتحدث بغير صوت … الضمير

1.3kviews

54706R

الأب روماني أمين اليسوعي

كان من رحمة الله بالإنسان، أنْ جعلَ في داخله جهاز استقبال حسَّاس اصطلحَ على تسميته بالضمير! ومن خلال هذا الجهاز يتحدث الله إلى قلوب الناس، فينبههم إلى مواقع الخطر، وينذرهم كلما جنحت نفوسهم إلى موارد الهلاك.

وهذا الجهاز الحساس الذي ندعوه الضمير، يقوم بعملين أساسيين، فهو يقوم بدور جرس الأنذار الذي يدق للتنبيه قبل الوقوع في الخطإ . وهو كمطرقة التأنيب يُبكتنا إذا تعمَّدنا الخطأ.

وهذان العملان للضمير، يهدفان إلى حماية الإنسان حتى لا يسقط ، ثم حثَّه على النهوض إذا هو سقط . وكثيراً ما نتحدث عن الضمير ، وكيف أن ذلك الشخص ذو ضمير حي ، وقد تسمع عن شخص آخر أن ” لا ” ضمير له … إلى آخر التعبيرات المنطوقة التي يحاول بها ناطقها أن يُعبِّر عن رأيه إزاء شخص ما . كل البشر سواء آمنوا بديانة أو لم يؤمنوا يقرُّون بوجود ضمير.

وجرَّبَ كثيرون أنْ يشرحوا هذا الضمير بأشياء واقعية وبسيطة تقربه إلى الاذهان . فقالوا إن الضمير هوالرادع الأدبي، وبما أنه الرادع الطبيعي ، مِثل غريزة البقاء والخوف من الموت يبقي الإنسان ضمن حدود إنسانية معروفة ، هكذا الضمير الأدبي يبقي الإنسان ضمن حدود الخلقية الأدبية الصحيحة .

​الضمير أو الذمة ، هو حجر الزاوية في بناء الحياة الفردية والاجتماعية معاً. ولا سبيل لسير النظام ، واستتباب السلام فيهما ، ما لم تستضيئا بنور الضمير الحي الوضَّاح وتسترشدا بصوته.

    ​إن الضمير هو صوت داخلي نسمعه دوماً في كل الحالات.إن سألناه أجاب، وإن لم نسأله أبدَى رأيه سرًّا أو عالياً باللحن واللهجة الموافقة للأحوال . فليس هو إلا حُكم العقل في أعمالنا البشرية.

​والضمير هو مشترع ، لأن الشرائع التي تسود سلوكنا تصل بقناة الضمير إلى إرادتنا فتضبطها. فهو الذي كتب على لوحة أنفسنا شرائع ومبادىء أزلية ، وليس من عاقل إلا يقرأها عندما يستيقظ الذهن فيه فيسلِّم بها… وما كتبه الله في أنفسنا لا تستطيع يد أن تمحوه… وقد يجوز أن نجهل الشرائع البشرية، بل شريعة الله نفسها الموصَى بها، أمَّا أن تُخفى عنا الشرائع المطبوعة فينا، فذلك من المُحال…

​إن الضمير هو مشترع داخلي يقبض بيد من حديد ويضطرنا إلى التقيد بأوامره . وعدا ذلك هو شاهد : يشهد علينا حين نسيء أو نحسن العمل… والذاكرة التي في خدمته تخبره بكل شيء… لا مهرب من الضمير… هو شاهد له مقلتان مفتوحتان دوماً وفي كل مكان ، شاهد لا يفارقنا. يرَى الناس ظاهر أعمالنا، أما المخدع الداخلي ، مخدع النيات فلا يدركه إلا هو . وهناك يزن درجة الانتباه ، وقوة الشهوة وجودة المقاصد ، ولا تخفَى عليه خافية من حياتنا. بوسعنا أن نرفض شهود الخارج ، أما هو فليس بوسعنا أن نجعله لا يتكلم ، فإنه ينظرإلينا بجرأة فيطمئنا أو يلزمنا أن نطأطئ رأساً خجلاً قائلاً : كنتُحاضراً ورأيتُ ، وها أن آثار عملك لا تزال مطبوعة في مثل آثار جُرح بعد التئامه .

​شاهد وشهادته لا يقوَى على زعزعتها أحد . فإن شهدَالعالم بأسره علينا زوراً ، وكانت شهادة ضميرنا حسنة بقينا في سلام. وإن برأنا العالم بأسره ، وبكتنا ضميرنا ، فلا سلام لنا . ويوم يدين الله العالم ، لا يتكلم أحد ، ولا يشهد علينا إلا ضميرنا، فهو الذي سيقص تاريخ حياتنا، وهو الذي يملي على الله حُكمه فينا .

أما عقوبة الضمير فهي الأحزان الداخلية لا مهرب من صوته وتوبيخه .

إن الضمير يمثل منصة الحُكم في الإنسان، وكما أن القاضي لا يسن الشرائع بل يصدر الأحكام، كذلك الحال بالنسبة للضمير فهو يصدر الحُكم وفقَ ما يعرفه الإنسان عنإرادة الله حين إصدار الحُكم . وتدل عمليات الانتحار بصورة قاطعة على آلام الضمير التي يمكن أن تصبح أشد وطأة من رعب الموت نفسه… وأن هذه الآلام المرعبة التي لا تطاق والتي يعانيها الضمير، لترغم المجرم على الاعتراف أمام رجال الشرطة بجرائم ارتكبها ولكنها لم تُكتشَف بعد . إنه يفضل أي نوع منأنواع القصاص على التعذيب الذي يسببه له ضميره ويشعر بأنه هو محتمل .

إن كل واحد منا لا يستطيع أن يصل إلى مستوى مُثله العليا أو ذاته المُثلَى، وأنه بسبب ذلك لا يستطيع أن يرضيَ ضميره في كل تصرفاته وسلوكه وأفكاره ، فيشعر بسبب ذلك بالسخط والذنب. هذا الإحساس بالذنب وبسبب حالة من التوتر في داخل النفس لا يزيلها إلا العقاب الذي يرضى الضمير ويجعله مرة أخرى في حالة توافق مع الذات.

فالضمير يمثل معايير الفرد وقيمه ومبادئه العليا. إنه السلطة العُليا الضابطة في الإنسان ، فإذا لم يستجب الفرد لندائه فإنه سوف يعاقبه عن طريق قوة داخلية من خلال الشعور وكراهية الذات ونبذها . وتعطي مدرسة التحليل النفسي أهمية كبرَى لنمو الضمير في نضج الإنسان.

ترَى ما هي العوامل التي تتسبب في إضعاف ضميرالإنسان ؟ يقول علماء النفس والتربية : إن هناك عوامل وراثية وأخرَى بيئية تُضعِف الضمير وتُمزق قواه . العوامل الوراثية هي الذكاء ، فإذا كان الذكاء الذي يرثه الإنسان قليلاً محدوداً، كان تكوين ضميره ضعيفاً محدوداً أيضاً، وذلك لأن هذا الإنسان في كل مرحلة من مراحل حياته لا يستطيع أن يدرك قيمة الضوابط والروادع والأوامر التي يفرضها المتسلطون عليه . أما عوامل البيئة فنجد هناك مؤثرات تعمل على تقوية النفس الهمجية وإعطائها الفرصة للانتصار على الضمير ، وأهمها التدليل والقسوة المتناهية والتذبذب في المعاملة .

ولكن الضمير له دور آخر ، إنه صوت الأبدية في داخلالإنسان . الصوت الذي يوجِّه أنظارنا إلى آفاق كونية أبعد من حدود الماديات الملموسة ، وأبعد من حدود العُمْر القصير.

إن الضمير الطاهر هو الرادار الحسَّاس الذي يلتقط الرسائل التي يبعثها روح الله القدوس، ليفتح أمام الإنسان أفاقالأبدية والخلود .

إنه الصوت الداخلي الذي يستخدمه روح الله ليكشف لنا طريق الحياة الجديدة ، ويوضح لنا ما يصعب علينا إدراكه منأسرار الخلود.

لكن ضمائر الناس ، ليست دائماً كالأجهزة الحساسة الدقيقة ، التي تلتقط الإشارات . إن لبعض الناس ضمائر يقظة ، تستمع إلي ما يبثه روح الله ، وتفهم إشاراته وتوجيهاته . فتدرك بوضوح طريقها إلى الله ، وتمتلىء نفوس أصحابها بالسلام الداخلي ، واليقين الكامل بالسعادة الأبدية والخلود .

ولكن بعض الناس لهم ضمائر بليدة الحس، لا تلتقط همسات روح الله ، ولا تفهم إشاراته ، وتظل خامدة في مادياتها المحسوسة. ولبعض الناس ضمائر نائمة… فقد استحسنوا أن يغلقوا هذا الجهاز الحساس ، حتى لا يبكتهم على أخطائهم ، فيعيشون في دناياهم ، غير عابئين بأمر حياتهم الأبدية.

وبعض الناس ماتت ضمائرهم ، إنها ليست نائمة إلى حين، بل أصبحت ضمائرهم ميتة لا تتأثر بصوت إنذار، أو بصوت تبكيت . لذلك فإن روح الله يتحدث إليهم ، لكنهم لا يتجاوبون ، حتى تنتهي حياتهم ، فيهلكون في جهلهم ؛ لذلك يقول (ولتون) : ” من يفقد ضميره ، لا يمتلك شيئاً يستحق الحفظ “.

موقع وطنى