ولمَ علينا أن نبقى في الشرق؟ – بقلم الأب سامي حلاّق اليسوعيّ
القراءات الكتابيّة
* حزقيال 17: 22 – 24
هكذا قالَ السَّيِّدُ الرَّبّ: إِنِّي سآخُذُ مِن ناصِيَةِ الأَرزِ العالي لأَغرِسَها. أَقتَطِع مِن عالي أَغْصانِه غُصنًاغَضًّا وأَغرِسُه أَنا على جَبَلٍ شامِخٍ شاهِق. في جَبَلِ إِسْرائيل العالي أَغرِسُه فيُنشِئُ أَفْنانًا ويثمِرُ ثَمَرًا ويَصيرُ أَرزًا جَليلاً، فيَأوي تَحتَه كُلُّ طائِر، كُلُّذي جَناحٍ يَأوي في ظِلِّ أَغْصانِه. فتَعلَمُ جَميعُ أَشْجارِ الحُقولِ أَنِّي أَنا الرَّبَّ وَضَعتُ الشَّجَرَ المُرتَفِعَ ورَفَعتُ الشَّجَرَ الوَضيع، وأَيْبَستُ الشَّجَرَ الرَّطبَ وأَنبَتُّ الشَّجَرَ اليابِس. أَنا الرَّبَّ قُلتُ وفَعَلتُ.
* 2 قورنتس 5: 6 – 10
لِذَلِكَ لا نَزالُ آخِذينَ بالثِّقة، على عِلمِنا بِأَنَّنا، ما دُمْنا مُقيمينَ في هَذا الجَسَد، نَظَلُّ في دارِ غُرْبَةٍ عَنِ الرَّبّ، (لأَنَّنا نَهتَدي بِالإِيمانِ لا بِالعِيان)؛ فَنحْنُ إِذًا واثِقون، ونُفَضِّلُ هَجْرَ هَذا الجَسَد، لِنُقيمَ في جِوارِ الرَّبّ. ولِذلِكَ أَيضًا نَرْغَبُ كُلَّ الرَّغْبَةِ في نَيلِ رِضاه، أأَقَمْنا في هذا الجَسَدِ أَم هَجَرْناه، لأَنَّه لا بُدَّ لَنا جَميعًا، مِن أَن يُكشَفَ أَمرُنا أَمامَ مَحْكَمةِ المسيح، لِيَنالَ كُلُّ واحِدٍ جَزاءَ ما أَعْمالِه، وَهْوَ في الجَسَد، أَخيرًا كانَ أَم شَرًّا.
* مرقس 4: 26 – 34
في ذلك الزَّمان: قال يَسوعُ للجموع: «مَثَلُ مَلَكوتِ اللهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ يُلْقي البَذْرَ في الأَرض. فسَواءٌ نامَ أو قامَ لَيلَ نَهار، فالبَذْرُ يَنبُتُ ويَنمي، وهو لا يَدري كيفَ يَكونُ ذلك. فَالأَرضُ مِن نَفسِها تُخرِجُ العُشبَ أَوَّلاً، ثُمَّ السُّنُبل، ثُمَّ القَمحَ الَّذي يَملأُ السُّنبُل .فما إِن يُدرِكُ الثَّمَرُ حتَّى يُعمَلَ فيه المِنجَل، لِأَنَّ الحَصادَ قد حان«. وقال: «بِماذا نُشَبِّهُ مَلَكوتَ الله، أَو بِأَيِّ مَثَلٍ نُمَثِّلُه؟ إِنَّه مِثلُ حَبَّةِ خَردَل: فهِيَ، حينَ تُزرَعُ في الأَرض، أَصغَرُ سائرِ البُزورِ الَّتي في الأَرض. فإِذا زُرِعَت، اِرتَفَعَت وصارَت أَكبَرَ البُقولِ كُلِّها، وأَرسَلَت أَغْصانًا كَبيرة، حتَّى إِنَّ طُيورَ السَّماءِ تَستَطيعُ أَن تُعَشِّشَ في ظِلِّها«. وكانَ يُكَلِّمُهُم بِأَمْثالٍ كَثيرةٍ كهذِه، لِيُلْقِيَ إِلَيهم كلِمةَ الله، على قَدرِ ما كانوا يَستَطيعونَ أَن يَسمَعوها. ولَم يُكَلِّمْهُم مِن دُونِ مَثَل، فَإِذا انفَرَدَ بِتَلاميذِه فَسَّرَ لَهم كُلَّ شَيء.
العظة
مَن يمعن النظر في القراءة الأولى يتساءل سؤالاً منطقيًّا: الربّ الإله يقتلع غصنًا من أرزةٍ على جبل ويغرسه على جبلٍ آخر فيثمر، ثمّ يقول: «أَنا الرَّبَّ وَضَعتُ الشَّجَرَ المُرتَفِعَ ورَفَعتُ الشَّجَرَ الوَضيع». الغصن كان مرتفعًا وظلّ كذلك. فأين العبرة؟
إنّ هذا المقطع جزء من فصلٍ كاملٍ يتحدّث فيه الربّ عن عُقابٍ (والمقصود هنا يد الربّ) طويل الجناح حمل بذرةً وزرعها قرب المياه في أرضٍ طيّبة فنمَت وأطلقت فروعها، لكنّ عُقابًا آخر ظهر فمالت إليه وسعت وراءه فاقتُلِعَت من جذورها وذوَت.
في هذا السياق يذكّر الله الشعب بأنّه هو الذي أخرجهم من أرض مصر، أرض العبوديّة، وأقام معهم عهدًا، وجعلهم في الأرض التي أقام بها أجدادهم، فنكثوا العهد ومالوا إلى آلهة الأمم الأخرى، لذلك أتاهم السبي.
حين نقرأ اليوم هذا النصّ لا بدّ لنا من أن نتذكّر أنّ الله هو الذي شاء أن نكون حاضرين هنا، مسيحيّين في البلدان العربيّة، وأنّه يقيم معنا عهدًا فيلتزم بأن يكون معنا على الدوام، ونلتزم بأن نعمل بمشيئته. وما هي مشيئته؟ يذكّرنا يسوع المسيح بمَثَل حبّة الخردل بهذه المشيئة.
أراد الزارع أن يزرع حبّة الخردل في حقله لا لتعيش لنفسها بل لتنمو؛ أرادها تنمو لا لتزهو بنفسها وتتعالى على غيرها، بل لتأوي إليها الطيور وتعشّش في ظلّها. فما يريده الله من حضورنا هو أن نكون لأجل الآخرين، لا أن نتقوقع على ذواتنا ونصير نحن غاية في حدّ ذاتها. يريدنا الله أن نكون وسيلة ليبني بنا ملكوته، ملكوت المحبّة والسلام.
حضورنا في الشرق حضور منفتح. إنّه حضور المسيح في فلسطين حيث لم ينغلق عن أيّ فئةٍ اجتماعيّة وعن أيّ إنسان. وقد لام الفرّيسيّون انفتاحه، لاموه لأنّه يعاشر الخطأة وجباة الضرائب وغير اليهود، فردّ عليهم بعنفٍ وبرهن لهم أنّهم مخطئون في تفكيرهم الفئويّ، وأنّه محقّ في تفكيره الشموليّ، لأنّه رغبة الله.
لقد أراد الله أن يكون وجودنا في الشرق رسالة. وأعلنت الوثائق الكاثوليكيّة ذلك مرارًا. بقي علينا أن نترجم هذا الإعلان إلى تطبيق. ولسنا بحاجة إلى مترجمين ولا إلى مؤسّساتٍ كنسيّة لأجل ذلك، فهذه مهمّة كلّ واحدٍ منّا. كلّ واحدٍ مسؤول عن تنمية روح السلام والحفاظ عليها. كلّ واحدٍ مسؤول عن نشر المحبّة بين الناس، وتحطيم حدودها على الدوام لتصير أشمل وأعمق. كلّ واحدٍ مسؤول عن الشهادة بأعماله قبل أقواله عن واجب احترام الإنسان، أيّ إنسان، كلّ إنسان. كلّ واحدٍ مسؤول عن احترام الخليقة والبيئة وعدم العبث بها لأنّها خرجت من يديّ الله.
حين نتحمّل مسؤوليّتنا هذه نعمل بمشيئة الله، ونستطيع أن نردّ على مَن يسألنا لمَ علينا أن نبقَ في الشرق، رغم الظروف ورغم الصعوبات. إنّها رسالتنا، ولا نريد أن نتهرّب منها تحت أيّ ذريعةٍ كانت. إنّها معنى حياتنا ووجودنا. هذا ما يذكّرنا القدّيس بولس به في رسالته التي نقرأها هذا الأحد:
«فَنحْنُ إِذًا واثِقون، ونُفَضِّلُ هَجْرَ هَذا الجَسَد، لِنُقيمَ في جِوارِ الرَّبّ. ولِذلِكَ أَيضًا نَرْغَبُ كُلَّ الرَّغْبَةِ في نَيلِ رِضاه، أأَقَمْنا في هذا الجَسَدِ أَم هَجَرْناه، لأَنَّه لا بُدَّ لَنا جَميعًا، مِن أَن يُكشَفَ أَمرُنا أَمامَ مَحْكَمةِ المسيح، لِيَنالَ كُلُّ واحِدٍ جَزاءَ ما أَعْمالِه، وَهْوَ في الجَسَد، أَخيرًا كانَ أَم شَرًّا».
الأب سامي حلّاق اليسوعيّ
يسوعيون