العلاقة بين اللاهوت الأخلاقي العامّ والخاصّ – الأب/ د. أندراوس فهمي
العلاقة بين اللاهوت الأخلاقي العامّ والخاصّ – الأب/ د. أندراوس فهمي
مقدمة
نودّ، قبل الخوض في موضوعات علم اللاهوت الأخلاقيّ المسيحيّ الخاصّ، أن نُذكِّر القارئ بضرورة الانتباه إلى أساس تقسيم علم لاهوت الأخلاق، لفَهم انطلاقة هذا العلم وسبب ذلك التقسيم. فغالباً، يتوقّع القارئ أن يجد رداً أخلاقياً مباشراً من الكنيسة، على مواضيع وإشكاليات تظهر في خضم الحياة اليومية. وهذا بالطبع من أبسط حقوقه. ولذلك من الضروري أن يشترك القارئ في تفهم المعايير الّتي عليها تقوم الكنيسة بصياغة فكر لاهوتيّ معيّن عن إحدى الإشكاليات، وإصدار حكم بكونها خيّرة أم لا. وهذا ما دفعنا لأن نبدأ هذه السلسلة من المقالات بتذكر المبادئ الأساسيّة الّتي تمّ عليها إنشاء وتقسيم علم اللاهوت الأخلاقيّ الكاثوليكيّ بالصورة الّتي وصلت إلينا. ولذلك نودّ أن نتمعن جيداً في فهم تلك الجذور. فقد تمّ تقسيم علم لاهوت الأخلاق المسيحيّ Moral Theology، مثله كباقي العلوم اللاهوتيّة الّتي نشأت وتتطوّرت في الكنيسة الكاثوليكيّة، إلى جزئيّن: عام Fundamental Moral Theology، وخاصSpecial Moral Theology.
فيكمّل كل منهما الآخر: فيهتم لاهوت الأخلاق العام بالمبادئ الأوليّة والأساسيّة الّتي بها يتم تقييم الإشكاليات الأخلاقيّة، والمسائل المتعلّقة بسلوكيات معينة والمطلوب إبداء رأي مسيحيّ فيها؛ أمّا لاهوت الأخلاق الخاص يهتم بدراسة مواضيع خاصة وليس بالمبادئ. وعلى ذلك، وكما يتضح من الوهلة الأولى، أن كلا الفرعيّن ضروريّ: فبدون المبادئ المدروسة جيداً في لاهوت الأخلاق العام لن يكون من الممكن إسناد حكم صالح على تصرف أو سلوك خاص، وكذلك بدون البحث في القضايا الخاصة لن يكون من المفيد إيجاد مبادئ عامة. تخدم المبادئ العامة في الوصول لحكم معين على السلوك، إذ تطرأ في الحياة العمليّة قضايا وإشكاليات تحتاج أن يكون الشخص على وعي كبير بالمبادئ حتى يجد الطريقة المناسبة ليسلك ويحيا بها في مواجهة مثل هذه القضايا.
بالطريقة نفسها جاء لاهوت الأخلاق العام ليتكامل وعلم اللاهوت Theology. ولذلك فقد بنى نظرياته على مبادئ جوهريّة وأساسيّة تم اختبارها والتأكّد من صحتها لتتناسب وركائز السلوك الأربعة: الحريّة، الضمير، الشريعة (الشريعة الأخلاقيّة)، ومصادر التعليم الأخلاقيّ (مصادر استقاء الأخلاقيات). وإضافة إلى ذلك يدرس أيضاً ما يمكن أن نسميه “مؤثرات على الحياة الأخلاقية”، أي الفضائل، والخطيئة. وهذه هي المواضيع الأساسيّة الّتي يدور حولها لاهوت الأخلاق العام.
ويأتي بعد ذلك دور لاهوت الأخلاق الخاص، فأمام بعض المواقف والظروف يحتاج المرء إلى إجابة عن المجالات الّتي تخضع لحكم أخلاقيّ ما، والّتي يطالب فيها بإيجاد حكم عن مدى كون تلك التصرفات “صالحة” أم “شريرة”؟ ونتساءل عن الكيفيّة الّتي بها ندرس سلوك الشخص بصورة مناسبة حتى تسمح بالحكم على سلوكه؟ فيجيب على مثل هذه التساؤلات لاهوت الأخلاق الخاص. أمّا الطريقة الّتي بها نحاول الإجابة على مثل هذه التساؤلات لدينا وجهات نظر مختلفة لدراستها، وعلى وجه الخصوص لدينا ثلاثة مناهج للخوض في لاهوت الأخلاق الخاص.
مناهج مختلفة لدراسة لاهوت الأخلاق الخاص
من الناحية التاريخيّة، كان يُدرس لاهوت الأخلاق مندمجاً مع اللاهوت العقائديّ، فقد كانا يمثلان وُحدةً تامة حتى أنّ طرق معالجة مواضيع اللاهوت العقائديّ والأخلاقيّ كانت تُدرس بنفس الأسلوب في كتب اللاهوت، رغم اختلاف مواضيع كل منهما، فالمنهج واحد، سواء كان الحديث عن حقيقة إيمانيّة (عقيدة) أم عن سلوك أخلاقيّ (أخلاق). وفي بداية القرن السابع عشر، ظهر احتياج لفصل اللاهوت الأخلاقيّ عن العقائديّ، ثم بدأت مسيرة بلورة لهذا العلم الجديد. ويمكن أن نلخص أسباب هذا الفصل:1. الضرورة المُلحة لتعميق وفهم السلوك الشخصيّ للمسيحيين، بالشكل الّذي يساعدهم بوضوح، على معرفة ما إذا كانت سلوكياتهم صالحة (خيِّرة) أم لا، وما هي تلك الأفعال الّتي يمكن تصنيفها على إنها شريرة في ذاتها.2. الاحتياج لعلم لاهوتيّ يدرس الأخلاق بصورة أكثر عمليّة وأقل نظريّة. حيث كان هناك ضرورة من قِبَل الكهنة لمعرفة واضحة ومباشرة لبعض القضايا الّتي كانت تظهر لهم في المجال الرعويّ، وبالأخص مساعدتهم في توجيه المؤمنين في ممارسة سر المصالحة.
وبناء على هذه الاحتياجات ظهرت مناهج لدراسة لاهوت الأخلاق الخاص، وتبنى هؤلاء الكتّاب منهجين أساسيّين: تبنى بعضهم منهج دراسة الوصايا العشر، وفيها تُدرس العشر وصايا، لإيجاد أحكام على السلوكيات المسيحيّة، والبعض الآخر اتخذ من الفضائل نموذجاً آخراً لإيجاد أحكاماً مناسبةً على السلوكيات، وبالأخص دراسة الثلاث فضائل المسمّاة “الفضائل اللاهوتيّة”: الإيمان، والرجاء، والمحبة. وتمّ إضافة أربع فضائل أخرى سمّيت “الفضائل الأساسيّة”: الحكمة (الفطنة)، العدالة، الشجاعة، الاعتدال (القناعة).
إيجابيات وسلبيات المنهجين
منهج “الوصايا”
كان من الطبيعيّ أن يكون لكل نظام إيجابيات وسلبيات. فتميّز منهج دراسة اللاهوت الأخلاقيّ الخاص بمنهج الوصايا بأنّه يرتكز وبشكل أساسيّ على الكتاب المقدس، أي الوصايا كما وردت في سفر الخروج (1:20-17) ولذلك فهو منهج ميسّر وسهل، حيث من الممكن تعميق القواعد الأخلاقيّة بناءً على الوصايا، وهي في متناول الجميع ويمكن الرجوع إليها دائماً. أمّا حدود هذا المنهج فيمكن تلخيصها في صعوبتين:
1. خطر قصر الحياة الأخلاقيّة على ما أعلنه لنا العهد القديم والوصايا بهذا الشكل المعروض، وخطر ترك التعاليم الأخلاقيّة العظيمة الّتي أعلنها الرب يسوع في العهد الجديد.
2. خطر الوقوع في جعل الأخلاق خاضعة لميزان تشريعيّ والّذي يختبئ وراء كلمة “وصايا”، وهذا بالطبع ما قد حدث في فترة من فترات تطور اللاهوت الأخلاقيّ، حيث إنّ أي مخالفة للوصايا كانت تُقاس كما لو أنّه يجب تطبيق القصاص على المُخالف، وهذا قد يؤدي بطبيعة الحال إلى فقدان روح الوصايا. وهذا ما أدى ببعض الدارسين للتحفظ على استخدام مثل هذا المنهج، وعلى الأخلاق الّتي يمكن أن تنتج عنه وتُفهم على أنّها “قوانين”. ومع ذلك فهذه الصعوبة يمكن تخطيها بسهولة عندما نأخذ روح القانون أو الشريعة، والّذي أعلنه لنا يسوع المسيح في العهد الجديد، حيث أظهر لنا قيمة حريّة الإنسان في الخضوع للوصايا والّتي توجهه إلى عمل الخير بحريّة وخضوع لمحبة وإرادة الله.
منهج “الفضائل”
يتميز هذا المنهج بتقليد عريق. فهو يعود إلى “أرسطو” أول فيلسوف إغريقيّ تحدّث وكتب عن مواضيع فلسفيّة في الأخلاق. بل وقام بتعميق وتطوير كثيراً من السلوكيات والفضائل. وقد تبعه في ذلك، واستعان بأفكاره القديس توما الأكوينيّ الّذي قام بعمل أول موضوع أخلاقيّ بدراسته لكلٍ من هذه الفضائل. ولذلك فميزة هذا المنهج أنّه مبنيّ على أساس فلسفيّ عميق ومنطقيّ لدراسة الحالات الأخلاقيّة المعينة. أمّا حدود هذا المنهج، فتكمن في خطر الاقتراب من الأخلاق الوثنيّة لدى “أرسطو”، والّتي لم تأخذ في الاعتبار فضائل مسيحيّة أخرى مثل التواضع. ولذلك فمثل هذا المنهج يمكن أن يحملنا إلى أخلاقيات تعتمد بشكل أساسيّ على عادات وتقاليد الزمن الّذي نعيشه. ومع ذلك، يمكننا استخدام هذا المنهج أيضاً وتخطي هذه الصعوبة، هذا إذا أخذنا في الاعتبار العلوم الإنسانيّة التي تدرس الشخص وتطوره وتطور سلوكياته، والتي يمكن أن تتوافق مع أسس ومبادئ أخلاقيّة مُختَبَرة وسليمة، ويمكن أيضاً أن تتوافق سلوكه مع الفضائل المسيحيّة.
منهج ثالث مُستحدث
لقد تطوّر كلا المنهجين السابقين على مدى أربعة قرون ومازال يُعمل بهما حتى اليوم، ولكن في هذه الأيام ظهر من دارسي اللاهوت الأخلاقيّ مَن يُحبذ إيجاد نموذج آخر والّذي يكمن في إعطاء الإنسان أهميته، وتبعاً لهذه الأهميّة يمكن صياغة المنهج الجديد بالشكل التاليّ:
v دراسة “أخلاقيات الشخص”: وفيها يتم صياغة قواعد تتساءل عن علاقة الإنسان بالله، وإشكاليات الأسرة والزواج، ومعالجة موضوع الحياة الجنسيّة، والمواضيع المتعلقة بعلم أخلاقيات الحياة Bioethics.
v دراسة “أخلاقيات خاصة”: وفيه يتم دراسة الأبعاد الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة لحياة المؤمن، وكذلك دراسة المؤسسات الاجتماعيّة والقوانين التي تحكم الحياة الاجتماعيّة.ختاماً من الواضح- كما سبق القول- أنّ كلاً من هذه المناهج له ما يميزه وكذلك حدوده. وكل منها قادر على تعميق وتطوير الخطاب الأخلاقيّ ومحتوياته بما يتناسب وحياة المسيحيّ. ولكنّنا نود أن نعرض في المقالات القادمة مواضيع أخلاقيّة خاصّة لنموذج “الوصايا” لأنّه يحتوي على ميزات كثيرة، كما أنّه المنهج المُختار من قبل السلطات الكنسية في وضع كتاب “التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة”، لنكون في شركة وتناغم مع توجيهات الكنيسة الكاثوليكيّة، مع مراعاة محاولة تفادي الوقوع في سلبيّة هذا المنهج، وفي الوقت نفسه الاستعانة بميزات المناهج الأخرى، وذلك في سبيل إيجاد خطاب لاهوتي أخلاقيّ متكامل حول الإشكاليات العصريّة المختلفة.