ماما لليـان … رســـولة الأرامــل والأيتــــام-ناجـح سمعـان
ماما لليـان … رســـولة الأرامــل والأيتــــام-ناجـح سمعـان
بمدينة أسيوط فى قلب صعيد مصر ، يقف ملجأ لليان تراشر شامخاً يتحدى مصائب الزمن كمنارة للرحمة وملاذ للمحتاجين على مدى مائة عام (1911 – 2011 ) . يعكس المكان قصة إيمان خادمة كرست ذاتها للرب فى رعاية الأيتام والأرامل فاستحقت أن تدعى ” أم الأيتام المصريين ” . تحاول السطور القليلة التالية أن تتأمل حياة هذه السيدة وما صنعه الرب على يديها من خير لأبناء مصر . وستبقى رسالة مؤسسة لليان تراشر فى رعاية الأرامل والأيتام قائمة بنعمة الله وجهود المحبين والمتطوعين الذين رأوا فى طريق “ماما لليان” دعوة ورسالة .
(1) – البدايات :
بمقاطعة جاسكو فيل بولاية فلوريدا الأمريكية ولدت لليان وليم تراشر فى 27 سبتمبر 1887 وفى سنواتها الأولى التحقت بمدرسة الكتاب المقدس . ولما كانت الصغيرة تشعر أن فى القلب نبتة دعوة إلى حياة الرسالة صّلت ذات يوم قائلة : ” يا رب إذا كان فى امكانى يوماً من الأيام أن أعمل شيئاً لك ، فدعنى أعرفه وسأقوم به ” . مع بداية عام 1908 تعرفت لليان على السيدة ” ماتى بيرى ” التى كانت تدير ملجأ للأطفال فى مدينة ” ماريون ” بكارولينا الشمالية . ودعت السيدة بيرى لليان للعمل معها بالملجأ ، فاقتربت لليان من حياة الطفولة والعناية بالأيتام كما تعلمت الكثير من أعمال الخياطة والمطبخ . ولعل خبرة العمل بملجأ السيدة بيرى كانت بمثابة محطة هامة فى تشكيل دعوة لليان نحو اكتشاف مشروع الله لحياتها . لكن من الأحداث الفارقة فى حياة لليان كان سماعها عظة من أحدى المرسلات الأمريكيات إلى بلاد الهند حيث تاثرت لليان بكلمات المرسلة عن الإنسانية المعذبة حتى أحست للوقت بدعوتها فى الحياة المرسلة وتملكتها رغبة قوية فى الذهاب إلى افريقيا . أيقنت لليان إن الله يدعوها إلى الخدمة بأفريقيا لكن أمام هذا اليقين اجتازت لليان خياراً صعباً كان بدوره علامة فارقة على طريق الرسالة . فقد كانت لليان فى تلك الاثناء مخطوبة لشاب تقى ولم يتبقى على الزفاف سوى عشرة أيام ، فعرضت عليه لليان أن يرافقها العمل فى افريقيا لكنه رفض ، عندها تركته لليان وأطاعت الأمر الإلهى . ذهبت لليان إلى مؤتمر المرسلات فى بتسبرج والتقت خلاله القس برلسفورد الذى كان يخدم بمدينة أسيوط فى صعيد مصر ودعاها لمعاونته ، فأحست لليان ان الله هو الذى دعاها وحدد مكان خدمتها . وفيما كانت تصلى فى غرفتها قبل الإبحار إلى مصر قصدت الكتاب المقدس وكانت كلمة الله إليها ” إنى قد رايت مشقة شعبي الذى فى مصر وسمعت انينهم ونزلت لأنقذهم ، فهلم الآن أرسلك إلى مصر ” ( اع 7 / 34 ) . وعن هذه اللحظة النادرة تقول لليان ” بهذه الطريقة الأكيدة وضع الله ختمه النهائي على دعوته الصريحة لي ” .
(2 ) – الرسالة فى اسيوط :
وصلت لليان تراشر إلى أسيوط فى 26 اكتوبر 1910 وبدأت فى تعلم اللغة العربية بجمعية القس برلسفورد ، وبعد شهور قليلة من وصولها وتحديداً فى 10 فبراير 1911 دعيت إلى زيارة أرملة فقيرة تشرف على الموت . عندما وصلت لليان إلى المرأة كانت تحتضر فى غرفة مظلمة وكانت طفلتها الرضيعة ذات الثلاثة اشهر تجرع لبناً من إناء متسخ وقد انتن اللبن ولا تزال تحاول الصغيرة أن تشرب منه ، وما برحت الأم أن لفظت أنفاسها الأخيرة حتى حملت لليان الطفلة الرضيعة بين يديها كعطية من الله ، ولتبدأ بها فصل جديد من الرسالة التى دعاها الله إليها على أرض مصر . استأجرت لليان بيتاً صغيراً واشترت بعض الأثاث ، لكن كانت البداية صعبة للغاية إذ أن لليان تراشر فتاة أمريكية تعيش وحيدة فى مجتمع قبلى ولم يكن من السهل أن يعهد إليها الناس بالاطفال الأيتام لتربيتهم والعناية بهم وحتى العام الثانى لم تتمكن لليان من احتضان سوى ثمانية أطفال . وأمام صدق الرسالة ونبل الغايات وثق المصريون فى ” ماما لليان ” .وفى عام 1916 بلغ عدد الأطفال خمسيناً طفلاً وبدأت لليان فى تأسيس البيت الحالى للمؤسسة الواقع شرق خزان اسيوط على ضفاف النيل . وهكذا عرفت ” ماما لليان ” بين ابناء الصعيد برعايتها للأيتام والأرامل فتعاون معها الكثير من ابناء أسيوط من اطباء ومعلمين وحرفيين ، كما جاءتها المساعدات المادية والمعنوية من داخل مصر وخارجها كذلك تطوعن الفتيات المصريات لمعاونتها فى تربية الأطفال ورعاية الآرامل .
(3)- اشواك على الطريق :
كما عاشت ” لليان تراشر ” أزمنة هناء وسلام اجتازت كذلك أزمنة صعبة وتجارب عديدة منها نشوب الحرب العالمية الثانية عام 1939 وانقطاع المعونات الخارجية ، كذلك انتشار وباء الكوليرا عام 1947ومحاصرة البوليس للمؤسسة وفى جميع تلك الأحداث لم يكن لماما لليان وابنائها وسيلة سوى الصلاة إلى الأب المحب ابو اليتيم وزوج الأرملة الذى منحهم معجزة السلام وكمال الاكتفاء . وعن هذه الظروف قالت لليان ” إن الله لم يخيب أملنا فى كل هذه السنين فقد اطعمنا مثل العصافير التى لا تزرع ولا تحصد ولاتجمع إلى مخازن ، بل لقد حقق الله لنا الكثير من المشروعات فقد استطعنا أن نشيد عيادة داخلية للعلاج ومدرسة ابتدائية للبنين ” . وهكذا سارت أم الأيتام المصريين على مدى خمسين عاماً خدمت خلالها ما يزيد عن عشرة الآف يتيم وارملة وعاشت رسالتها بثقة كاملة فيمن دعاها . كذلك أحبت المصريين و كانت أخر كلماتها إليهم ” لقد قدمتم لى أجّل مساعدة ووقفتم معى واشركتكم فى تشييد هذا الصرح الكبير الذي سيبقى مع الزمن يؤدى رسالة جليلة ” . وانتقلت ماما لليان إلى المجد السماوي فى 17 ديسمبر 1961 .
(4)- كلمات الرجاء :
فى ختام هذه القراءة التأملية فى حياة خادمة جليلة لم أجد أطيب من أترك القارئ يستمع إلى كلمات لليان تراشر عن حياتها ورسالتها إذ كتبت فى خواطرها قائلة : ” تذكرنى خدمتى بالمؤسسة بقصة الولد الصغير الذى كان يعبر الصحراء وحيداً وكلما عطش كان يحفر فى الأرض بئراً ليحصل منها على الماء . وكان يحفر كل بئر بيديه حتى أدمت أصابعه وكان يشرب منها حتى يرتوى ، ثم يواصل رحلته الشاقة وعندما بلغ نهاية رحلته كان قد هده الإعياء والتعب بسبب ما عاناه من مشقة حفر الآبار . ومضى الوقت ورأى الولد ولداً أخر صغير يحمل أزهاراً جميلة ، قادماً من الصحراء التى كان قد عبرها ، ولم يكن يبدو عليه أى تعب أو إعياء فسأل الولد الأول الولد الثانى كيف استطاع أن يعبر الصحراء القاحلة بدون عناء ؟ ومن اين الأزهار ؟ فأجاب الثاني أن الطريق كان جميلاً فقد كانت الآبار محفورة على طول الطريق وحول كل بئر كانت الأزهار اليانعة . فنظر الأول إلى أصابعه الدامية الملتهبة وهو فرح مسرور فقد ادرك أن تعبه وعناءه هو الذى مهد الطريق الجميل عبر الصحراء فجعلها سهلة العبور . كلما أتذكر هذه القصة احس بالفرح والتشجيع حتى أنى كنت ابذل ما فى وسعى واحفر الآبار فى صحراء الحياة القاسية حتى امهد الطريق أمام الأطفال الأيتام والأرامل ” .
ناجـح سمعـان