الأحد الثالث بعد الفصح
الأحد الثالث بعد الفصح
الأب منويل بدر – ألمانيا
وعرفاه عند كسر الخبز (لوقا 24: 13-35)
لوقا ينقل لنا أطول وأجمل تقرير عن القيامة، وذلك بأسلوب بسيط، حتّى أن كلّ واحد يقرأه يجد نفسه معنياً فيه. فالرجلان المذكوران كانا مِن عداد الكثيرين، الذين كانوا ينتظرون بلهف مجيء المخلّص، الذي سيطرد المستعمر ويؤسس مملكة داؤد الجديدة. فلقد جاءا من منطقة نائية عن أورشليم ليحضرا حفلة عيد االفصح اليهودي الدينية في الهيكل، أي عيد الخروج من مصر وانتهاء العبودية الفرعونيّة، كما تفيد التوراة. وعلى غير موعد إذا بقدوم هذا المخلص إلى أورشليم يوم أحد الشعانين ودخوله المدينة بمهرجان شعبي، يرافقه الآلاف من جبل الزيتون إلى الهيكل، معولين عليه القيام بحركة شعبيّة، يكسب فيها الجماهير المنهكة تحت الإحتلال، فيقوموا بانتفاضة مسلّحة، ترغم الرومان على ترك البلاد. على الحاكم الظّالم أن ينتظر دائماً أن يهبّ الشّعب عليه، كما ثارت الشعوب العربيّة على حكامها وطردتهم عن كراسيهم المذهّبَة، بلا رجعة.
لكن آمال الآلاف خابت هنا، عندما رأوا عجزه أو عدم مبالاته بالإستجابة لمطالبهم وإعلان ثورة مُرتقبة يقودها هو، من بعد ما أصبح له نفوذ كبير بين الشّعب. لكنّ هذل الشعب ثار عليه، وبحيلة مفتعلة، صاحبَتْ هذه الجماهير قياديّ الإستعمار، وعلى رأسهم بيلاطس، الذي هو وحده كانت له الصّلاحيّة على إصدار الأمر بقتل أو بالإفراج عن المشتكى عليهم، وتوصّلوا إلى قتله صلباً كأحد أكبر المجرمين.
هذان الرّجلان كانا من بين الآلاف التي حضرت هذا المشهد المؤلم، إذ بدل ذبح الحملان التكفيريّة في ساحة الهيكل، ذبح إنسان عظيم، لكنّه مكروهٌ من رؤساء الشّعب. وبعد صلاة مراسيم العيد غادرت الجماهير، كلّ إلى بلده، مع أسوأ الذّكريات هذه المرّة. ويذكر لوقا أن هذين الرّجلين كانا من عمواس. فرجعا إليها مكسوفيّ الخاطر لما شاهداه في أيّام الأعياد هذه المرَّة. ونحن نعلم كم يكون الحزن مخيماً علينا عندما نأتي وكلنا أمل للحصول على شيء، فتأتي النّتيجة عكسية (تأتي الرياح بما لا تشتهي السّفن). في هذه السّاعة لا يكون لا العقل صافياً ولا القلب منفتحاً لتغيير الموضوع والحديث عن شيء آخر، سوى عن خيبة الأمل. لقد فقدا كلّ الأمل بتحسين الأوضاع لشعبهما، لكنّهما لم يفقدا صحبة بعضهما البعض. لذا ترافقا على طريق العودة إلى قريتهما وإلى عائلتهما. وهنا يتابع لوقا: “وبينما هما يتحدّثان ويتجادلان، إذا بيسوع نفسه قد دنا منهما، وأخذ يسير معهما، على أن أعينهما حجبت عن معرفته” (لو 15:24) وفجأة، وفي خضمّ حزنهما ينضمّ إليهما مسافر ثالث. ودون أن يتعرّفا عليه، يُيدي لهما شعوره الكبير مع رؤيتهما حزينيْن. من لا يتذكر كلمة يسوع: “حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة، فأنا أكون بينهم” (متّى 20:18). للخروج من الحزن يقول علماء النّفس، على الحزين أن يفتح قلبه إلى صديقه ويفاتحه بسبب حزنه، فيجد الرّاحة. الصّديق الحقيقي هو الصّديق في الضيق. مع هذا الصّديق تندمج العواطف ويظهر شعور المؤاساة والتّعزية الحقيقية، فيبدأ الحجر الثقيل المخيم على القلب بالتّدحرج رويداً رويداً ويصبح الحِمل الثقيل خفيفاً على الأكتاف الضّعيفة. في مثل هذه الحالات، ودون سابق إنذار، يجد الإنسان أن الله يبعث التّعزية خفية وعلى طريقته هو.
فبينما كان هذان الرجلان مُنهمكين في تعزية بعضهما البعض، انضمّ إليهما هذا الرّفيق الجديد، وكأنه من أوّل وهلة رأى الحزن على ملامحهما فانَدمج للتو في الحديث معهما، مستفسراً عن لهجتهما الحزينة الكئيبة، إذ حتّى بانضمامه لهما، كأنهما لم يلحظا وجوده بينهما، إذ هما لم يقطعا الحديث عمّا كانا يتحدّثان به قبل انضمامه إليهما. فكان شرارة كهربائية سرت في أجسامهما. وقفا عن السّير ونظرا إلى هذا الرّفيق حتّى وقعتْ أنظارهما بنظره، فسألاه مستغربَيْن: أنت أيضاً قادمٌ من أورشليم وعشت الكبير والصّغير فيها هذا الأسبوع، فكيف لم تسمع بما حدث هناك؟ لكنّه أصرّ عليهما أن يُفضيا همَّهُما من جديد على مسامعه. فأصغى إليهما صامِتا، وهما يسردان عليه ما جال في خاطرهما من مرارة، في تلك اللحظة، وحمّلا الله أكبر المسؤوليّة، بحيث أنَّهُ بدل أن يحقق آمال الشّعب ويدعم المدعو يسوع كي يخلّص شعبه، سمح على العكس بقتلة بأشنع طريقة.
لا بدّ أن يسوع هزّ رأسه لهذا التفكير البشري. لكنّه أخذ الموضوع بجديّة وأظهر لهما بكل هدوء أنه ليس الله الذي أمات ذاك الذي كان أملهم وأمل الشّعب وإنما هم روؤساء الشّعب المتغطرسين الّذين خافوا من إعلانه أن الديانة التي بشّر بها تقوم على محبّة الله لجميع البشر، وليس بتقسيمهم بين محبوبين ومبغضين، فخافوا من أن يتركهم الشّعب: “فجمعَ رؤساءُ الكهنة والفرِّسيّون مَجمَعاً وقالوا: ماذا نصنع فإنَّ هذا الإنسان يصنّع آيات كثيرة. إن تركناهُ هكذا يؤمن الجميع به، فيأتي الرّومانيّون ويأخذون موضعنا وأمتنا” (يو 11: 47-48). هذا ولكي يضعوا حدّا لنجاحه بتهجمه عليهم، إدّعوا أمام بيلاطس أن لهم شريعة، وبحسب هذه الشّريعة هو مستحقٌ الموت (يو 7:19). إنّي في داخلي أتساءل دائماً لماذا يريد الّذين رفضوه (وهم كانوا شعبه المختار) أن يتملَّصوا من تحمُّل هذا الجريمة النّكراء، ويقولوا: لا! نحن ما صلبناه! “ويل لذاك الإنسان الذي يسلمه” (لو 22:22).
الله لم يتدخّل بالقوة لإيقاف قتله، لأن الله ما كان خطّط أن يكون الإنتصار للقوة ولكن للضعف “ذاك ما اختاره الله ليخزي الحكماء. واختار الله ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء… لكي لا يفتخر كلّ ذي جسدٍ أمامه” (1 كور 1 25 و27).
هذا وبيّن الله انتصاره الكبير على القوّة بخبر إقامة ابنه من الموت. من أجوبة هذا الغريب المرافق لهم، شعروا أنّهُ ليس فقط قد فهِم وَضعهم الحزين بل فهموا هم أيضاً تصميم الله من تحت كلّ ما عاشوا وشاهدوا وسمعوا. لذا فلكي يتابعوا الحديث الجذّاب معه، إذ تعمّقت صداقتُهم معه، ولو هي وليدة السّاعة فقط، دعياه أن يدخل معهما ويمضي الليلة عندهما وفي ضيافتهما، كما العادة في الشّرق. فدخل. وعندما جاء كسْر الخبز، شعر هذا الرّفيق وكأنّهُ هو سيّد البيت، فأمسك الخبز هو نفسه، علامة الصّداقة والثقة، وباركه ثمّ أعطاهما حصّة الأخوة. فما أن أكلا منه حتّى انفتحت أعينهما وتعرّفا عليه. وأما هو، الذي سكن فيهم الأن، فقد غاب عن أعينهما. من لا يتذكر كلمات بولس هنا: “لست أنا الحيّ، إنّما هو الحيُّ فيَّ” (غلاطية 20:2).
وكأنّهُما أفاقا من حلم، فعادا بالفكر لحديثه وشروحاته على الطّريق، الّتي عزّتهما في حزنهما، فقال أحدهما للآخر: أما كان قلبنا متقداً في صدرنا، حين كان يحدّثنا في الطّريق، ويشرح لنا الكتب؟” (لو 32:24). وللتوّ قرّرا أن يرجعا إلى أورشليم، لينقلا للتّلاميذ هذا الخبر المفرح ويتقاسما الفرحة معهم، وإذا بهؤلاء أيضاً يُفاجِؤونهما بالخبر السّار: “إنّ الرّبَّ قام حقّاً وتراءى لبطرس” (24:24).
من يقرأ هذه القصة اليوم، يشعر تماماً أنّها ليست قِصَّة إخباريّة إستهلاكِيَّة محضة. إذ لوقا ليس مُهرِّجاً أو كاتب نصّ لفيلم خيالي، وإنما هو يحكي قصّة واقعيّة حيّة حيوية، لا رموز فيها ولا تخيلات عقليّة، تحكي واقع القيامة والمقابلة الحقيقيّة، التي تجرّ إلى الإيمان الحقيقي. فمن يقرأ هذه القصّة، لا يسعه إلاّ أن يتحرّق قلبه لمعرفة الحقيقة وصدق الديانة المسيحيّة، التي أسّسها المسيح. نصل إلى حقيقة وصحّة الديانة، إذا اجتهدنا دائماً في تقليد مسير قصّة اليوم: أن ننهض للتفتيش عن يسوع في الكتب الملهمة، في تفسيرها، مثلما عمل المسيح مع التّلميذين، ثم بالإشتراك في ذبيحة القدّاس والمناولة، فتنفتح عينونا ونتعرّف آخيراً على المسيح القائم. والنتيجة أننا نقوم ونبدأ بالتبشير به.
موقع ابونا