الأحد الثاني من الزمن الفصحي: القائم وخبرتي معه!-الأب داني قريو السالسي
الأحد الثاني من الزمن الفصحي: القائم وخبرتي معه!
الأب داني قريو السالسي
إنَّ إنجيل الأحد الثاني من الزمن الفصحي يصف لنا ظهورين للرب يسوع في حضور جماعة الرسل. الترائي الأول يصف ما معنى كلمة “رؤية” الرب في حياتنا. الثاني يقول لنا “رؤية” الرب هي أمرٌ شخصيٌ: ولا أحد يسستطيع أن يقوم به عوضاً عنّي. يجب أن ألمسه، أشعر به، أعيشه وأختبره شخصياً.
إنَّ التلاميذ بعد ممات يسوع، كانوا حزانى، كئيبين، كانوا في قرارة أنفسهم يقولون: “لقد فعلوا هذا في المعلم، ماذا سسيفعلون بنا؟” الخوف، القلق، الرعب كان مسيطراً عليهم. “كان التلاميذ في دارٍ أُغلقت أبوابها خوفاً من اليهود” يصف يوحنا الإنجيلي أنّ الأبواب كانت مغلقة، وكأنه يريد أن يقول: لم يكونوا يريدون سماع شيءٍ عن يسوع. كان يتملكهم خوفٌ شديد، وغم عظيم. يتساءلون: أيجب أن ننسى كلَّ ما حدث، ونعود الى أعمالنا في الجليل؟ هل يجب أن ننسى لحظات السماء التي قضيناها مع المعلم؟ لقد انتهى كلُّ شيء، علينا أن نكون أكثر واقعية، ونعود إلى حياتنا الروتينية. مع الأسف اليوم كثير من الناس يعيشون هذه التخبط. مع الأسف، هناك الذين يرفضون الإيمان. ليس لأنهم يكرهون الله. على العكس يريدون إكتشافه والتعرف به . يريدون الدخول في علاقة معه، عارفين أنَّ الله ليس العدو، أو مَن يريد سحقهم. لكن في نفس الوقت يعرفون ماذا يعني الإيمان بالرب. ماذا يعني فتح الأبواب له! لإنه إن تركته يدخل، سيريك حياتك، سيجعلك تواجه الواقع، سيحملك الى الدخول إلى أعماق ذاتك، سيدعك ترمي أقنعتك لترى صورتك الحقيقية. لهذا هناك البعض الذين يفضلون الإلحاد (الديانة السهلة)، أو البقاء بعيدين عنه. مع أنّ لقاء الرب أجمل مافي الوجود، هناك أشخاص (بعد تفكيرٍ مطول) يفضلون الابتعاد عنه، لأنه الطريق والحق والحياة. أجل لأنه الحق. مواجهة الحقيقة يمكن أن تؤلم. كثير من الملحدين لايرفضون الرب، إنما يرفضون اللقاء مع حقيقتهم، اللقاء مع الحقيقة.
كم من المرات نعيش هذا؟ مع أنّنا نذهب الى الكنيسة، مع أنّنا لا نهمل قداس الأحد مع أنّنا ملتزمون بنشاطات الكنيسة؟ كم مرة لم يكن هناك إتفاق بين الأزواج، إنطفأ الحب الأول وخمد، وحلت محله اللامبالاة. الزوجان مدركان هذا ولكن يتظاهران بأن الحياة مستمرة ويستمران هكذا. “لقد أُغلقت الأبواب” لأنهم يعرفون جيداً أن فتح الأبواب هو عملية مؤلمة. فتح الأبواب يعني التسليم بأن هناك أمراً ما لايسير جيداً، ويجب إعادة النظر فيه. ورغم هذا يستمران في العلاقة مع أنهما غيرراضيين بالوضع والهم والغم يتصاعدان فيهما.
كثير من المرات نشعر بأن هناك شيئاً ما. غضب مسستمر، تذمر وانتقاد، كذب وتمثيل، خيانة وفريسية… مرَّ زمن طويل والفرح لم يدخل قلوبنا، مر زمن طويل والمشاعر الرقيقة لم تلمسنا، نشعر بالحاجة الى التغيير ولكن نخاف. فماذا نفعل؟ نبدأ بإلقاء الذنب على الآخر، على العمل على الظروف…
هناك بعض الأشخاص، نجدهم لا يرغبون في فتح بعض المواضيع مطلقاً.
إن الرب يأتي للقائنا ويغلب مخاوفنا، يدعونا لأن نفتح بعض الأماكن التي أقفلنا عليها، يطلب منّا إزاحة الحجر الذي كان أمام دارنا ليحمينا حتى خنقنا… ظانين أنّنا بإنغلاقنا على أنفسنا نستطيع إيجاد الحلول لأمورنا المستعصية! عندما نسمع الذين سبقونا وهم يقولون: اسمح للرب أن يدخل حياتك (هنا ليس نسك، أو دروشة) لكي يعطيك النور فتواجه شكلك وجهاً لوجه. عندما تترك الرب يدخل حياتك سينير أماكن الظلام التي تسكنك فترى أموراً جديدة وتدب الحياة فيك.
هناك بعض الأشخاص الذين جرحتهم بعض الحوادث. يتألمون ولا يتكلمون، يحبسون ألمهم عن الآخرين. لايتركون شيئاً يظهر منهم. بالتالي ألمهم يتعفن داخلهم، متحولاً إلى سرطان يبدأ بنهشهم من الداخل. لأن أي جرحٍ، وأي ألمٍ لم يعالج يبدأ بالإلتهاب ويعدي كل الجسم. ومع الأسف هناك كثيرون حياتهم أنهر من الآلام، من الخيانات، من الوحدة… يخافون الانفتاح على الآخر لكي لا يتكبدوا جراحاً أخرى! وهكذا يظلون في أوجاعهم ومخاوفهم ليل نهار. كلنا تألمنا في حياتنا، كلنا أصابتنا بعض خيبات الأمل، بعض لحظات الفشل، لكن إن لم نسمح لأحدٍ أن يدخل وينيرنا من الداخل، سننغلق على آلامنا وأوجاعنا وندفع ثمن مخاوفنا غالياً. كلنا بحاجة لكلمات يسوع التي تقول: “لا تخف” أعلم أنك خائف، وترغب في إحكام إغلاق قلبك لكي لا يدخل أحد. لكن ثق ودعني أدخل إلى مخاوفك، إلى غرفتك المظلمة. “لا تخف، سيعم السلام قلبك، فأنا معك”
إنّ أولى كلمات يسوع بعد قيامته هي “السلام عليكم” ويكررها مرتين. ويضيف “كما أرسلني الآب أرسلكم أنا أيضاً” أي أنّه كان هناك معنى لحياة يسوع، وكذلك هناك معنى لحياتي. كل ما أختبره وما أعيشه، له معنى، ليس وليد الصدفة. يريد أن يعلمني شيئاً وسيفعل المستحيل من أجلي لكي أتعلمها. لأن كل ما حدث وما يحدث له معنى ومعنى عميق وليس عبثاً. فقط دع الرب يدخل أبوابك المغلقة وستكتشف أن حياتك في قمة الروعة.
ومن بعدها يقول يسوع: “خذوا الروح القدس” أي من الآن وصاعداً سيسكن الروح فيك، من الآن وصاعداً أصبحت مسكن الله. أي أصبحت تملك قوة هائلة. هذا الروح هو نفس الروح الذي نفخه الله في بدء الخليقة في آدم فأصبح إنساناً. كان تراباً فأصبح خليقة جديدة. يسوع منح التلاميذ روحه، ومنحنا أيضاً نفس الروح، أي منحنا طاقة وحيوية تمكننا من تذوق كل لحظة وكل هبة تمطرها السماء علينا، فنعيش وكأننا في الفردوس.
لكن توما لم يختبر الفرح الذي عم التلاميذ لرؤية الرب “ففرح التلاميذ لمشاهدة الرب”. لم يختبر توما ثمار القيامة السلام الداخلي والفرح الحقيقي. توما والذي نسميه “الشكاك، الذي شك” كان في مسيرة بحث عن خبرة الرسل التي كان بعيدة عنه. أي أنّ إيماننا هو ثمرة خبرة شخصية، هو بحاجة إلى خبرة شخصية. كثير من المربين والأباء وحتى الكهنة يخافون إن لم أقل يهربون من المراهقين والشباب، وينعتونهم بأنهم لا يفهمون، وليس لهم حس ديني، فهم يأتون إلى الكنيسة فقط من أجل مصالح وغايات خاصة. يقارنونهم بذويهم أو بمجتمعهم، ويستغربون كيف أنّ هذا الشاب بعيدٌ عن الكنيسة مع أنّ والديه لا يبرحان الخدمة في الكنيسة وفي الأخويات؟ إن هذا الشاب هوكتوما، هو شاب لم يعد يرضى بإيمان أهله، إن إيمان إهله، هو نتيجة خبرتهم هم. الآن هو يبحث عن خبرته الخاصة مع الرب، إن قياس وشكل ونوع إيمان أهله (رغم كل حسناته) لا يناسبه، هذا الشاب هو في إجتهادٍ ليجد إيمانه هو، يبحث عن خبرة لقاء الله. لم تعد تناسبه خبرات الآخرين. وهذا أمرٌ حتمي لمن يريد أن يلتقي بالرب شخصياً، لمن يريد أن يراه، أن يتحدث معه أن يسأله عما يخالجه وعما يقلقه… هذه هي المسيرة الحقيقية للإيمان. لأنه بهذه الخبرة أتحرر من قيودٍ كثيرة، تزول عني أوهام كانت تقض مضجعي وتشل حركاتي وأفكاري.
لهذا كان على توما أن يلمس، أي أن يجرب خبرته مع القائم، كان عليه أن يلتقي به في حياته. القديسون، الشهود الحقيقيون لا ترضيهم خبرة الآخرين عن الرب. اللقاء المصيري اللقاء الحتمي الذي بدّل وغير حياتهم كان اللقاء الشخصي بينهم وبين الرب القائم. لأن خبرة الإيمان هي كسائر الخبرات الحميمية لا يمكن أن يقوم بها آخر عني. وكأني متغربٌ عن زوجي وأولادي، فلو تكلمت معي نساء العالم بأسره لن يعوضنني عن حديث زوجتي اليّ. ولو رأيت أولاد العالم كلهم فلن يعوضوني عن لمسة حنان من ابني وابنتي فلذات كبدي. لهذا أصرَّ توما على أن يلتقي بالرب، أن يراه ويلمسه. هذه هي خبرة الإيمان، إما أن أقوم بها أنا أو لن يعوضني عنها أي إنسان.
هنا توما عندما يرى الرب يقول: “ربي وإلهي” وكذلك المجدليه في لقائها قالت: “يارب، رابوني، أي يامعلم” ويسوع نفسه تكلم عن أبي وأبيكم” أي أنّ الإيمان هو علاقة شخصية خاصة وعميقة، ولا أحد يستطيع أن يقوم بها عني. لأن كل علاقة حميمية هي فريدة من نوعها. علاقة الحب، التعرف الى شخص، اللقاء مع حبيب، الشعور بأنه يقف إلي جانبي ويساندني، أنه يطبطب علي، يتفهمني ويحتضنني… والإيمان ينشأ من خبرة علاقات شخصية وحميمة كهذه.
عندما كنت طالباً في اللاهوت كنت أذهب لمساعدة كاهن الرعية. وصدف أني كنت أشارك في اليوبيل الذهبي لزوجين (ذكرى مرور خمسين سنة على زواجهما) بحضور أولادهما واحفادهما. وذهلت من نداء الزوج الهرم لزوجته. كان يناديها mio amore وكانت تناديه بنفس الأسم! كان يقول لها (طوال مراسم اليوبيل خلال القداس) حبيبي انظري، حبيبي خذي، حبيبي اعطني وهي كانت تقول له نفس الشيء. وبعد انتهاء الحفل ذهبت لأبارك لهما وقلت لهما تأثرت جداً من علاقتكما، وكأنكما عاشقان جديدان. فأجابتني الزوجة (71 سنة) إن علاقة حبنا تطورت مع الزمن، كل مرة كنا نكتشف واحدنا الآخر أكثر فأكثر فيتطور حبنا أكثر فأكثر. فسألتهما، والمشاكل، فأجابني الزوج: وما أكثرها، لكن لو لم تكن هناك المشاكل لما تعمقت علاقتنا وأصبحت حميمية هكذا. ولدي إن المشاكل، الصعوبات، الأفراح، الأحزان… كلها خبرات، إن عشناها بكل أبعادها ستصبح خبرة منّا وفينا، ستصبح مشكلتنا، فرحنا، سعادتنا، ستصبح قطعة موزاييك في لوحة هذه الحياة. فقالت زوجته: عندما كان يجعلني أغضب، كان لا يتكلم معي ولكن في نفس الوقت كان يراقبني من بعيد، لم يكن يستطع نسيان الخبرات الحميمية التي قضيناها سوية، كانت حافزاً له ليصالحني. وعشنا كل حياتنا هكذا.
إن خبرة توما أصبحت جزءاً لا يتجزأ منه. وكذلك كل القديسين، لم يروا القائم، لكن أختبروه في حياتهم، وخبرتهم معه أصبحت جزءاً من كيانهم. أكثر من 20 سنة عاشت الأم تريز في الجفاف الروحي، لم تكن تشعر بحضور الرب في حياتها، لكنها استمرت في تكريسها وتفانيها في رسالتها. إن خبرة لقائها مع الرب دخلت فيها وبدأن تقودها من الداخل. كذلك كيارا لوبيك، عاشت سنين من دون أي شعور بأن الرب معها وكتبت هذه الخبرة بعنوان الليل المظلم، لكنها لم تتراجع لأن خبرتها الشخصية معه كان كافية لتدفعها لإتمام رسالتها إلى أن التقت به ثانية قبل مماتها.
في إحدى المرات تحدثت معي إحدى الأرامل وقالت إني أنتظر هذه اللحظة كل أسبوع (القداس) لآتي وأعمل خبرة حميمية مع الرب. أنتظر بفارغ الصبر حفيدي ليحضرني لألتقي مع الرب. وختمت قائلة: كيف لي أن أعيش من دونه!
أظن أن يسوع كان يقصد هذه العجوز حينما قال: “طوبى للذين يؤمنون ولم يروا”. الخبرة ليست بحاجة إلى عيون الجسدية، إنما بحاجة إلى عيون القلب.
المسيح قام…حقاً قام ونحن شهودٌ على ذلك! لأننا أختبرناه. لأننا تركناه يدخل قولبنا فيصبح جزءاً لا يجزأ من كياننا. (يو20، 19-30)