الأحد الثاني من زمن المجيء: المعمدان وملكوت الله-الأب داني قريو السالسي
ها هي ذي الفأس على أصول الشجر، فكلُّ شجرةٍ لا تُثمر ثمراً طيباً تقطع وتلقى في النار
إن إنجيل هذا الأحد وأيضاً الأحد المقبل يقدم لنا شخصية يوحنا المعمدان. هذه الشخصية شديدة الاختلاف عن ابناء عصره. ايليا الجديد بمظهره وقوته، “حول وسطه زُنَّارٌ من جلد” كالذي كان يرتديه إيليا النبي وأيضاً كان لباسه “من وبر الإبل… وكان طعامه الجراد والعسل البري” هذا الاسلوب من العيش كان مناقضا لمتطلبات النقاء اليهودي!.
مظهر يوحنا الخارجي لا قيمة له، لأنه متطابق مع ذاته!! ليس بحاجة إلى ثياب، ليس بحاجة إلى أقنعة يختفي خلفها أو يخفي شيئا؛ يوحنا هو إنسان شفاف، الذي في قلبه على لسانه.
جميلٌ أن نرتدي أفخر الثياب. إن ارتداء الملابس الأنيقة هو علامة الجاه وأيضاً علامة محبة في حد ذاته. ولكن متى طغت الأناقة وأصبحت أهم من الشخص، أو ارتداء الملابس الفاخرة هو فقط من أجل إخفاء شيء وراءه بالتالي أصبحت عبودية. مهما لبس ومهما ارتدى الانسان، سيبقى هو هو، لأن كل هذا لن يخفي شيئاً ولن يغير شيئاً من الداخل.
المعمدان ليس مختلفاً فقط في ثيابه، في مظهره الخارجي. إنما أيضاً هو مختلفٌ بما يقوله وبما يفعله. هو مختلفٌ في حريته، مختلفٌ بأمانته لذاته ولمبادئه. لم يكن محابياً لأحد، او مرائياً لوجه. إنسان لا يخاف ولا يُشترط عليه.
المعمدان، هذا الشخص ذو الشخصية القوية، الحازمة، هذا النبي الجريء، الذي كان يتكلم جهراً قائلاً: “ياأولاد الأفاعي من أراكم سبيل الهرب من الغضب الآتي؟”. كان ينذر الجميع أكانوا من عامة الشعب أم من اعيانه “الفرّيسيِّين والصَّدوقيِّين”. أتساءل هل هناك بعد “يوحنا”من يصرخ وينذر ويُعدُّ طريق الرب؟ مَن منّا له هذه الجرأة أن يقف في وجه الجميع، في وجه الرؤساء؟ لا يتستر على العيوب وعن النواقص، لا يتواطأ مع الغلط، ويسكت عن الشر. بكلِّ صدقٍ وبكل تواضع أقول لكم: أنا لا أملك هذه الجرأة ولا حتى أن أعظ بهذه الصرامة، على مثاله “يا أولاد الأفاعي” حتى أني أخجل أن أترجمها باللهجة المعاصرة يا أولاد الـ… قائلاً: يا ابن الـ…. وإن جمّلتها سأقول يا مرتشي، يا لص… ومع هذا لا أعرف هل لدي الجرأة الكافية لقولها علناً وامام الملأ.
كان يوحنا المعمدان على علمٍ بأن يسوع هو بين هؤلاء الناس المتجهين إليه. كان على درايةٍ من حدوث أمرٍ هام جداً. الملك حاضر وقريب… وسيُعيد المُلك، لهذا كان متهيباً للقائه، مستعداً لقبوله، وكان يُعد الناس، يحضر القلوب، يدعو الى التوبة وتغيير العقلية. نحن أيضأ نعلم أن يسوع سيأتي! لكن ماهي تحضيراتنا؟ المعمدان كان يعظ بضرورة تغيير العادات السيئة، ضرورة تبديل نمط الحياة، ضرورة ترك السلوكيات المنحرفة. ونحن اليوم ماذا نفعل تحضيراً لمجيء الرب؟ كان المعمدان يقول لأبناء شعبه كونوا متيقظين، كونوا منتبهين، لا تناموا، لا تغفوا أمام الشاشة الصغيرة، أما الاعلانات التجارية، لا تنفتنوا أمام واجهات المحلات التي تريد أن تفقِّر الميلاد، تريد أن تجعله يمضي سريعاً دون أن نلحظه. إن العالم اليوم يريد أن يفقدنا بهجة الميلاد الحقيقية، يريد أن يقدم الميلاد، كأنَه بابا نويل، أنّ الميلاد هو فقط هدايا، زينة، أضواء، حفلات، سهرات …. لا، وألف لا. إن الميلاد المسيحي هو يسوع المسيح، هو العمانوئيل الذي يريد أن يسكن قلوبنا!.
إن المعمدان لم يكن يعرف بالتحديد معنى مجيء الرب – كان ابن عصره – كان يظنُّ أنَّ المسيح سيأتي ويمسح عن وجه الأرض كل الأشرار، كان يظنُّ أنَّ المسيح سيأتي ويضع حداً لكل هذه الانحرافات، كان يظنُّ أنَّ المسيح سيأتي ويرمي في السجون كل الظالمين، كل المعتدين، كل الـ…. “ها هي ذي الفأس على أصول الشجر، فكلُّ شجرةٍ لا تُثمر ثمراً طيباً تقطع وتلقى في النار”.
كان المعمدان يتحلى بهذه النظرة عن المسيح. وحتى وهو في السجن – بسبب “توبيخه لهيرودس بأمره مع هيروديا أمرأة أخيه، وبسائر ما عمل من السيئات”- وبينما هو (يوحنا) بالسجن يرى أن يسوع لا يفعل ماكان يتوقعه، لم يضع أحدا في السجن، لم ينظف الأرض من الأشرار، لم يعلن الحرب على الرومان لتحرير الأرض، لهذا يدخل في أزمة! أنا أنتظر مسيحاً ينظف الساحة من هؤلاء الأوباش. أين المُلك الذي سيقيمه؟! كثيرون من أبناء عصره كانوا في انتظار إعادة إنشاء مملكة اسرائيل! كانوا في انتظار إنشاء مملكة أرضية جديدة. أما الملكوت الذي جاء يحققه يسوع فهو أمر آخر بعيدٌ كل البعد عن هذا. الملكوت المنتظر كان ملكوتاً خارجياً، أما ملكوت يسوع فهو ملكوت داخلي. “ملكوت السموات” يعني الله قريب، الله يسير معك جنباً إلى جنب، هو أقرب إليك من ذاتك. فإن فتحت قلبك وأصغيت إليه ستسع صوته وتلتقي به. “ملكوت السموات” ليس شيئاً مادياً (أسلحة، ارهاب، قوة، سيطرة…). “ملكوت السموات” هو عالم الروح، هو ملكوت داخلي، حميمي. هو ملكوت النفس، هو ملكوت يطلب تَوافق النية مع العمل. إذا رغبت فبإمكاني الدخول والتمتع به. ملكوت السموات لا يُغصب، أنما يُقدم، يُهدي! ليس هناك من هو مجبر على العيش هناك وفيه، ولكنَّ الكل بإمكانهم الوصول إن كانوا أصحاب الإرادة الحسنة.
ملكوت السماوات هو القدرة على التحكم بالنفس، أن أكون سيد نفسي، سيد حياتي. لا أدع حياتي مقادة من الظروف التي تحط بي (الاعلانات)، لا أكون مسيّرا من غرائزي وأهوائي، لا أكون كالقشة التي تتطاير مع أي هبوبٍ للريح. أن لا أدع أي قوة تسيطر وتسيّر حياتي. هذا يتطلب إرادة قوية، وقصداً ثابتاً لكي أطرد إي أحتلال داخلي وخارجي لنفسي. إن هذه هي التوبة، لأستطيع قبول يسوع “ملكوت السموات”.
إن يسوع جاء يُعلن وجهاُ جديداُ لله. جاء يقدم لقباً جدياً لله. يفوق ويتجاوز كل الاسماء الحسنى التسعة والتسعين، جاء يعرض الله، كأب محب. صحيحٌ أن الله هو القدوس، الكامل، الملك، الجبّار، المُهيمنُ، ضابط الكل… لكن قبل كل ذلك هو أب يحب أبناءه. هو كاملٌ بمحبته لأنه أبٌ، هو جبّارٌ بحبه لأنه أبٌ، هو عظيم بأبوته. فحينما يخاطبه يسوع يقول له، “أبّا” (بابا). أراد يسوع أن يظهر وجه الله المحب، وجه هذا الأب، لهذا عندما علّم تلاميذه الصلاة لم يقل لهم خاطبوا الله وقولوا يا ملكنا أو يا سيدنا انما يا ابانا. الاله الذي جاء يوحيه يسوع المسيح هو إله الحب، الإله الذي يحب الجميع، الإله الذي تخلى عن العرش السماوي وقرر أن يسكن بين البشر. ليس الاله الذي يسحق الأشرار، وينظف الساحة من كل ظالم. لإننا جميعاً أبناؤه، أبناء بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى. لهذا جاء يتوسل الى البشر أن يتوبوا أن يغيروا عقليتهم، أن يرجعوا عن طرقهم الملتوية. هذا الاله لايدمر العاصين، لا يسحق قساة القلوب كما كان يظن يوحنا أو معاصريه. عندما نقول نؤمن بإله واحد آب ضابط الكل، الله هو ضابط الكل في حبه. له رغبة واحدة أن يعرف العالم كم يحبهم.