الأحد الثاني والثلاثون من زمن السنة العادي: رجاءٌ جديد… أنا معكم، لن أموت!-الأب داني قريو السالسي
الأحد الثاني والثلاثون من زمن السنة العادي: رجاءٌ جديد… أنا معكم، لن أموت!
الأب داني قريو السالسي
يقدم لنا لوقا البشير هذا الأحد موضوع القيامة. إننا مهما تكلمنا عن مفهوم القيامة فليس بالأمر السهل. لأنه لم يختبرها أحدٌ قط. ممكن الحديث عن أمورٍ عديدة كالألم أو الحزن أو الفرح أو السعادة أو… لكن الكلام عن مفهوم القيامة فهو أمرٌ يصعب على العقل البشري تصديقه. حتى أنَّ بعض الرسل – كما يخبرنا القديس مرقس على لسان بطرس ويعقوب وبوحنا وهم نازلون من جبل التجلي – كانوا محتارين من هذه الكلمة: “… وأخذوا يتساءلون مامعنى القيامة من بين الأموات” لأنَّها خبرة بعيدة كلَّ البعد عن ثقافتهم ولغتهم وتصوراتهم. هذه كانت إحدى معتقدات الصدُّوقيين. “ودنا بعض الصدُّوقيين، وهم اللذين يقولون بأنّه لا قيامة”.
إن الصدُّوقيين كانوا من الطبقة الراقية المحافظة، من الطبقة الكهنوتية المرموقة، من الطبقة المثقفة من رجال الدين المفكرين. الَّذين لا يؤمنون بمفهوم القيامة من بين الأموات.
كان الصدُّوقيين يستعملون الطريقة الربينية بطرح مسألةٍ نظرية، وكثيراً من الأحيان يستخدمون موضوعاً محبكاً بطريقة شديدة التعقيد، أي موضوعاً مصطنعاً. كثيراً من الأحيان يخترعون موضوعاً عبثياً، ليصلوا إلى ما أرادوا أن يصلوا إليه. وهنا يعرضون مسألة الزواج، حيث من خلالها يؤكدون انَّه لا وجود للقيامة، أو حتى لا داعي للإيمان بهذه العقيدة. فنجدهم هنا يأتون الى يسوع ليس للتعلم او الأرتداد إنَّما للسخرية منه، لعلمهم أنَّه لامفرَّ من هذه القضية. مستشهدين بقانون الصهر كما ورد في (تثنية 25، 5-9) “إذا مات لامرئ أخٌ له امرأة وليس له ولد، فليأخذ أخوه المرأة ويقم نسلاً لأخيه”. لكن يسوع لا ينجرف مع خرافاتهم – تبهرني طريقته في الرد- حيث يبدأ بالحديث عن السماء قبل أن يبرهن عن هذا بما كتبه موسى. مبتدءاً بالمقارنة بين هنا وبين هناك، بين الأرض وبين السماء “إن الرجال من أبناء هذه الدنيا…. أما الذين وجدوا أهلاً… ” إنَّ هناك ليس كهنا. حياة السماء ليست كحياة الأرض. هناك النور ساطع من كلِ جهة، أما هنا فنحن نستنير من نور الشمس. وكما قيل في سفر الجامعة (1، 9) “لاجديد تحت الشمس” منذ بدء الأنسانية وهناك من يسرق، وإلى اليوم نجد من يسرق. الانسان سرق دائماً حتى من أقرب الناس اليه. منذ بدء الأنسانية وهناك من يقتل، وإلى اليوم نجد من يقتل. الانسان سفك الدماء دائماً. منذ بدء الأنسانية وهناك من يفعل الخير، وإلى اليوم نجد من يفعل الخير. هناك من لا يستسلم للشر ويفعل الخير دائماً. منذ بدء الأنسانية وهناك من يمرض، وإلى اليوم نجد من يمرض. المرضى موجودون دائماً. إنَّ البشر هم هم منذ بدء الإنسانية حتى اليوم، فليس من جديد تحت الشمس. أما في السماء فكلُّ شيءٍ جديد.
أبناء هذا العالم، وأبناء العالم الثاني ليسوا متشابهين أو حتى متساوين! هناك من لا يؤمن بالقيامة، أو بالحياة الأبدية، لأنه يحتج ويقول: لم يخبرني أحدٌ عن السماء، لهذا لا أؤمن!
حادثةٌ طريفةٌ حدثت مع أحد زملائي الكهنة عندما كنّا نتخصص في إيطاليا. روى لي أنَّه ألتقى بشخص في أحدِ المقاهي، ودار بينهما حديث وعندما أكتشف هذا الشخص أنّ زميلي كاهن، إبتدأ يستهزئ به ويقول: أنت متعلمٌ ومثقفٌ ومع هذا تؤمن؟! هل تظنُّ أنَّ هناك قيامة؟ فلم يرغب أن يفتح معه موضوعاً لاهوتياً عميقاً، لكن قال له: أنا أفضل أن أؤمن وأنا هنا، وإن أكتشفت بعد مماتي أنَّه لايوجد قيامة، فلن أخسر شيئاً؛ لكن إن لم أؤمنْ هنا وبعد مماتي أكتشفت أنَّه يوجد قيامة فسأخسر الكثير والكثير.
ويتابع يسوع في دحض معتقد الصدُّوقيين مستشهداً بسفر الخروج (3، 1-10) حينما عرّف الله نفسه لموسى من وسط العليقة قائلاً: “أنا الرب إله ابراهيم، وإله إسحق وإله يعقوب.”
إنَّ المقياس البشري الأرضي هو في الأخذ والإمتلاك “إذا مات لامرئ أخٌ له امرأة وليس له ولد، فليأخذ أخوه المرأة…” أما المقياس الإلهي السماوي هو في الانتماء “الرب إله ابراهيم، وإله إسحق وإله يعقوب”. كثيرٌ من الناس يفكرون أنَّ الحياة تكمن في الأخذ والإمتلاك والسيطرة. لديك قرش تساوي قرشاً لديك مليون تساوي مليوناً. للأسف كثيرٌ من الناس يسيرون على هذا المنحى. أما المنحى الذي يعرضه الرب فهو منحى آخر، إنّه منحى الإنتماء.
كم هو كبيرٌ ألم الوالدين عندما لا يشعر الأولاد بالانتماء لأسرتهم. يعيشون في البيت وكأنَّه مطعم أو فندق. يأتون إليّه فقط لسد إحتياجاتهم المادية من طعام وشراب، ليس لأنهم أبناء هذه العائلة، يدخلون ويخرجون لكن دون الاكتراث بشيء (فخار يكسر بعضو).
أذكر جيداً إحدى زياراتنا لأحد أديرة الناسكات في ضواحي تورينو، أننا ألتقينا بمعلمة الابتداء وسألتها عن كيفية معرفتها أنَّ هذه الفتاة[1] لها دعوة للحياة النسكية أم لا (لأنهنَّ يعشن حياة عزلة، حياة صلاة وتأمل) فأجابتني بكل بساطة؛ عندما تشعر الفتاة أنَّ هذا الدير هو بيتها، أي تعتني به كأنَّه جزء لايتجزأ من حياتها.
المسيحي هو الشخص المنتمي كل الأنتماء للمسيح. أي أنا جزء من المسيح، جزءٌ لا يتجزأ من المسيح القائم. جزءٌ لا يتجزأ من المنتصر على الموت على الألم على الظلم. هذا هو إيماننا.
يالهذا النور العظيم الذي يأتينا من إنجيل هذا الأحد. لا للأخذ إنما نعم للأنتماء. حياتي هي جزءٌ من حياة المسيح، حياتي هي مشاركة مع حياة المسيح. إني شريك معه في القيامة.
إنَّنا شعب مرتبط بعضه ببعض برباط المحبة. كل الخلافات وجميع النزعات بسبب نقص أواصر المحبة. كلٌّ منّا ينتمي إلى أبٍ وإلى أمٍ وهذا الرباط لن ينتهي أبداً، سيدوم ويستمر ويتغلغل في الصميم.
منطق الأخذ هو منطق السوق، لكن منطق الانتماء هو منطق البيت والعائلة. عبارة كانت ترن في ذهني عندما كنت في دمشق كان المربون يقدمون الأولاد لنا قائلين: هذا من صنع أولادي! لهذا كانت روح العائلة تشع في المركز ومن المركز. إنْ مارسنا روح الانتماء، إنْ عشنا أربطة المحبة ستصبح بيوتنا مصدر إشعاعٍ لأله ابراهيم واسحق ويعقوب. لأنه لم يكن: “إله أموات، بل إله أحياء، فهم جميعاً عنده أحياء، فأجاب بعض الكتبة: أحسنت يا معلم، ولم يجترئوا بعد ذلك أن يسألوه عن شيء”. لأن هذه هي الحقيقة الباقية، والتي كلّنا بحاجة إليها في هذه الدنيا وفي الآخرة؛ أنْ أنتمي لشخصٍ، (كم هي سعادة الفتاة عندما تربتط بحبيبها!) أنْ أنتمي لعائلةٍ! (كم من الأبناء يعيشون في أسرٍ ولكن يتألمون من التفكك الاسري وروح الامبالاة الموجودة)، أنْ أنتمي لله، أن اشعر فعلاً ومن كلِ قلبي أني الأبن الحبوب لديه، أني الأبنة المدللة عنده. إلهي وأبي.
كل يوم أحد تقام الذبيحة الإلهية في كل انحاء العالم، هل الكل يأتي ليشارك بالقداس؟! كثيرون لا يأتوا، يفضلوا النوم على المشاركة، لأنهم لا ينتمون لله، لا يشعرون بهذا اللإنتماء. إنَّ كلَّ الذين ينتمون لله يعيشون له.
كتب الأب [2]Don Oreste Benzi في مذكراته – عن عمرٍ يناهز 82 سنة – عشية مماته، قائلاً: عندما أموت، أي عندما لن أتنفس أو لن أتحرك، عندما وتبرد أطرافي ويزرق وجهي. ستقولون: إنَّه مات. أعزائي، هذه ستكون الكذبة الأكبر التي ستشاع أنذاك. لأني عندما لن أرى أحدٌ من هذا العالم، ثقوا أني في العالم الآخر، ثقوا أني بدأت أرى الله وجهاً لوجه.
سأصبح اقرب لكم…
لأني سأنتمي لله.
[1] أي فتاة ترغب بالإنضمام لديرهم، ترغب أن تكون ناسكةً.
[2] الأب أورسته بنزي إنه الكاهن عجوز شبه أعمى، كرّس حياته لرعاية المدمنين والإهتمام بالعاهرات وكل يائس «La morte non esiste, perché appena chiudo gli occhi a questa terra, mi apro all’infinito di Dio», Sabato 03 novembre 2007.