الأحد الخامس من الزمن الفصحي: يا بني، أنا أثق فيك!-الأب داني قريو السالسي
الأحد الخامس من الزمن الفصحي: يا بني، أنا أثق فيك!
الأب داني قريو السالسي
إنّ ليتورجية الكنيسة في هذا الأحد، الخامس من زمن الفصح تقدم لنا إحدى خُطَب يسوع الأخيرة التي أعلنها في العشاء الأخير. إنّ الكنيسة تأخذ هذه المقطوعات وتدرجها في الآحاد التي تلي القيامة لكي تنفذ إلى قلوبنا وفتتغلغل في وجداننا فنعيشها وننتعش منها.
إنّ الفصل الذي يسبق هذه المقطوعة هو التنازل غير المتوقع، الانحناء العظيم، المعلم يصبح عبداً في غسل الأرجل. أيضاً هناك شغف يسوع ولامبالاة يهوذا الذي يبيعه من أجل حفنة دراهم. وجميع التلاميذ كانوا فريسة القلق والخوف. كانوا يشعرون بأنّ أمراً ما سيحدث. كانوا ضائعين.
يتساءل بطرس: “يارب إلى أين تذهب”. توما: “إننا لانعرف أين تذهب، فكيف نعرف الطريق؟” فيلبس: “يارب، أرنا الآب وحسبنا”قلوبٌ ملأتها المخاوف والهموم. وما من يسوع إلا أن يهبهم كلماته التشجيعية “لا تضطرب قلوبكم” الفعل اليوناني المستعمل Tarasso(إضطراب، إنقلاب رأساً على عقب، ضياع تام) يستعمل هذا الفعل ليدل على ثوران أمواج البحر، حركة الأمواج المضطربة حينما تعصف بها الرياح وتبدأ بالتلاطم شرقاً وغرباً. هذا ما كان ينتاب التلاميذ، من قلق وغم وضياع… يا معلم، أنت كنت كلَّ شيء بالنسبة لنا، لقد وضعنا كلُّ رجائنا فيك، لقد أشعلت قلوبنا حماساً… والآن ستتركنا!
تصوروا بعد فترة زواج دامت أكثر من عشر سنوات وبسبب خلاف بسيط تقول الزوجة لزوجها: “الحياة معك لا تطاق، إلى متى سأتحملك؟ فتترك البيت وترحل” إن هذا الزوج سيدخل في أزمة، سيشعر أنه ضائع، تائه.
أو أنك تشعر بألم حادٍ، فتذهب للطبيب وتحلل فيقال لك: “يجب أن تعمل عملية بأسرع ما يمكن لأن معك ورمٌ خبيث” سيستحوذ عليك القلق والغم وستشعر بالضياع. هذا ما انتاب الرسل. شعروا بالاضطراب، بالقلق، بالضياع… كانوا يبحثون عن ضمانات، لذا طرحوا أسئلتهم المنشودة: يايسوع، أقلها قل لنا ماهو الحل؟ أين هو الطريق؟ ماذا يجب أن نعمل؟ هل سينتهي كل شيء؟ أرنا الآب فلن نشك من بعد؟… فيجيبهم يسوع: “لاتخافوا! لاتتصوروا أنّي سأترككم لوحدكم! لا تظنوا أنّي سأنساكم لحظةً! لا تفكروا ولو لبرهة أنّي سسأتخلّى عنكم! أجل سأعود إلى الآب ولكن سأعد لكم مسكناً لائقاً بكم “إني ذاهبٌ لأعدَّ لكم مقاماً لأرجع فآخذكم إليّ، لتكونوا أنتم أيضاً حيث أنا أكون”.
هل يقول يسوع هذا الكلام ليطمئنهم وحسب؟ هل يؤلف هذه الأقاويل ليهدئ من روعهم؟
ومع كل ما يقوله وما يؤكده، نجد أنّ الرسل يطلبون ضمانات. – معهم حق – لأنّ الحياة علمتهم، أنّ لا أحدٍ يستطيع أن يعطي ضمانات أكيدة، أنّ لا أحدٍ يستطيع أن يعطي تأكيدات مطلقة، أو وعوداً أبدية لاتراجع عنها. هذا ما أختبره الرسل في حياتهم. وأيضاً ما اختبرنا نحن، أنّ لا أحدٍ يستطيع أن يضمن وعوده، من ناحية العمل، من ناحية العلاقات الاجتماعية، من ناحية الصداقة الحميمية، حتى من ناحية القرابة الدموية… على هذه الأرض لايوجد أموراً قاطعة أو وعوداً أبدية، كلُّ شيءٍ هو عابر وغير مؤكد. ليس من السهل قبول هذه الحقيقة!
حقيقة واحدة ممكن أن تستمر إلى الأبد ألا وهي حقيقة المحبة. إن كلمة المحبة باللغة اللاتينية هي عبارة عن كلمة مسبوقة بأداة نفي a-mors, a-mortisأي لا للموت! المحبة هي القدرة الوحيدة القادرة على تحقيق الضمان الأبدي.
عندما يفارقنا غالٍ وينتقل من هذه الحياة إلى الآخرة، يمكننا أن نستمر في حبه حتى ولو لم يعد حاضراً معنا. المحبة هي القدرة الوحيدة التي بإمكانها أن تتحدى كل الصعاب، وتتخطى كل الآلام، تنسى التعب، وتلغي المسافات، حتى الموت لا يستطيع التغلب عليها “فالحب أقوى من الموت”. وفقط حيث يسود الحب هناك الضمان، هناك ممكن أن نقول “إلى الأبد” المحبة هي التي تؤسس الأمانة (الايمان) وليست الأمانة التي تؤسس المحبة.
أنا أنذهل عندما أرى طفلاً لم يتجاوز الخامسة من عمره، ينظر إلى والده قائلاً له: إذا رميت بنفسي هل ستلتقطني؟ فيجيبه الأب: بالتأكيد. وأجد أن الطفل (يثق) فيترك نفسه يسقط بين ذراعي والده المفتوحتان في انتظاره. إن هذا الطفل وثق بوالده. لأنه سمع صوته، رآه، لمسه، أختبر محبته بالتالي كان بإمكانه أن يرمي نفسه في حب أبيه (لأنه آمن به). أنت تحبني بالتالي لن تخذلني. والرسل كذلك يستطيعون أن يؤمنوا بيسوع لأنّهم سمعوه، رأوه، شعروا بحبه نحوهم فلهذا يمكنهم أن يثقوا به. إن كانت ثقتنا ناقصة (إيماننا ضعيف) فهذا أكبر دليل على أن محبتنا ليست كاملة. كل الضمانات البشرية لن تجدي نفعاً: “بموت فيك، مستعد أن أبذل حياتي في سبيلك، سأحبك إلى الأبد، أنا معك مهما حدث…” هم عبارات جميلة ومشجعة. لكن الأمر الوحيد الذي يجعلني أثق بالآخر هو أن أشعر أنّه حاضر، أنّه يحبني.
في الحياة اليومية، بين الأهل ومع الأصدقاء وفي العمل. غالباً مانسمع جملاً كهذه: “أنت ما بتنفع لشي!” “مافي خير فيك!” “أنت لست أهل لهذا العمل!” “كنت أظنُّ أنك صديقي!” “لا تأخذ دور غيرك! إلزم حدودك!” … وكثير وكثيرة هي عبارات الحياة اليومية. لكن عبارات يسوع هي ذو رنةٍ أخرى. لم يقل يسوع أبداً كلاماً كهذا! إنما قال: “من آمن بي يعمل هو أيضاً الأعمال التي أعملها أنا بل يعمل أعظم منها”. تكفي هذه الجملة لتجعلني أنطلق في رحاب الحياة. إنّ السماء لن تسعنا من الفرحة إن توقفنا وتأملنا هذه الآية. هناك من يثق فيّ، هناك من يعتمد عليّ، من يقدرني ويحبني ويرى فيّ شيئاً لم يراه أحدٌ قبله قط. كانت حياة يسوع قصيرة جداً 33 سنة (36 حسب مفسري الكتاب المقدس والمؤرخون) وفي مكانٍ محدد (فلسطين ونواحيها). أما مع التلاميذ فصوت يسوع وصل إلى أقصى المعمورة، لم تنحصر بشارته في دولة واحدة أو في قارة واحدة، بل انتشرت حتى وصلت كل الكرة الأرضية. ويذكر سفر أعمال الرسل كيف أنّ الناس”كانوا يَخرجون بالمرضى إلى الشوارع، فيضعوهم على الأسرة والفرش، لكي يقع ولو ظل بطرس عند مروره على أحدٍ منهم” نجد أن خيال بطرس كان كافٍ لإجراء المعجزات. ويأتي الأعتراض، إي معجزات! مَن منّا يمكنه أن يقوم بمعجزات كهذه! المعجزات ليس الأعمال الخارقة، الأحداث الفائقة الطبيعة، أو الأمور السحرية…
عندما كنت أعود إلى الجامعة من الخدمة في رعيتي يومي السبت والأحد. كان هناك كاهن عجوز أقمت معه نوعاً من الصداقة. وكان في كلِّ مرة يلتقيني كان يسألني نفس السؤال: حدثني عن المعجزات التي تمت عن يدك؟ كنت أبتسم له واتجنب الإجابة بسؤالي عن صحته – لأنه بالحقيقة، لم يكن لدي أي إجابة، ولم أفكر أبداً أنّه يسألني بجدية هذا السؤال”. وفي إحدى الأمسيات ونحن نتناول طعام العشاء كرر السؤال ذاته: اروي لي معجزاتك في هذا الأحد؟ فقلت له مستغرباً! أي معجزات؟ فدهش وقال: التي قمت بها. فقلت له: أنا؟! أنا لم أعمل شيء! فرد عليَّ لا تتواضع، فنحن زملاء. فأكدّت له بأني لم أقم في كل حياتي بأي معجزة. فقال لي: أنت تعظ في الكنيسة؟ فأجبته: نعم. فقال: ذالك الذي منذ 40 أو 50 سنة يعيش في الخطيئة وبعد سماع عظتك، يقرر تغيير حياته، أليست هذه معجزة؟ أتتصور أنك بقدرتك غيرت حياة شخص، تعود سنين وسنين على تصرفاتٍ ما، أو قناعات ما؟! ألا تعرّف؟ فأجبته: نعم. فأردف قائلاً: عندما يخرج أحدهم من كرسي الأعتراف مغفورة له خطاياه، والفرح يشع من كل خوالجه. ماذا تسمي هذا؟ أليس معجزة. ومن ذالك اليوم وأنا أحاول أن أستشف المعجزات التي يقيمها الرب من عن يدي ومن خلال الآخرين. إنّ هذا ليس مقصوراً فقط على رجال الدين. الأم التي فقدت زوجها وكرست نفسها لخدمة بيتها ورعاية أولادها. أهذه ليست معجزة؟ الزوجان الذان أحتفلا بذكرى مرور 25 سنة على وفاءهما لبعضهما. أليست هذه معجزة. أن أحب صديقي رغم أنّه كثيراً من المرات تناساني وفضّل فلاناً عوضاً عني. أليست هذه معجزة، عندما استمر في محبته؟
إننا بإيماننا بيسوع، نقوم بأعمالٍ أعظم من أعماله. يالها من ثقة عظيمة خصنا بها الرب. فقد خصنا بمحبة أكبر مما نحلم به، أكبر ممان نتوقعه أو نتصوره. لقد أعطانا مسؤولية أن نكون مسيحيين حقيقيون (أن أكون سفير المسيح أن أكون – إن صح التعبير – مسيحاً آخراً).
لأني مقيمٌ فيه وساكنُ به فأنا أستطيع أن أعمل ما وعدني به، وسأكون عند حسن ظنه. يارب، ها أنذا، أستعملني كما يحلو لك، فأنا رهن إشارتك! ربي أنا ورقة بيضاء أكتب عليها كل ما تشاء.Gv 14,1-12