الأحد الرابع من الزمن الاربعيني: تحدي المستحيل!
الأحد الرابع من الزمن الاربعيني: تحدي المستحيل!
الأب داني قريو السالسي
وصلنا إلى الأحد الرابع من الزمن الأربعيني، حيث تتابع الكنيسة عرض بعض اللقاءات الشخصية من الانجيل بحسب القديس يوحنا. فبعد أن تأملنا الأسبوع الفائت لقاء الرب مع السامرية، هذا الأحد نتأمل لقاءه مع المولود أعمى.
“وبينما هو سائر رأى رجلاً أعمى منذ مولده” بهذه الكلمات الافتتاحية يظهر أنّ يسوع وحده الذي يرى! يرى أعمى، مهمشا، لا أحد يعيره أي أهتمام. لكن يسوع يرى الذي لا يراه أحد ليس لأنه غير موجود إنما لأن البشر –وللأسف- لم يعيروا أهمية لأشخاص كهؤلاء. “رجلاً أعمى منذ مولده” الذي يمثل الانسانية التي لا ترى.
أمام موقف يسوع يتساءل التلاميذ: “رابي، من خطئ، أهذا أم والداه، حتى ولد أعمى؟” يسألون سؤالاً أخلاقياً. لأن المرض أو الاعاقة كانت مرتبطة بالخطيئة (حسب عقلية العهد القديم). لكن إذا كان أعمى منذ الولادة، كيف له أن يخطئ؟ كم من المرات نحن نطرح أسئلة من هذا النوع، أسئلة من دون تفكير، نطلق أحكاماً على الآخرين، نظن فيهم سوءاً دون منطق وعقلانية. أهو الذي خطئ أم والداه؟ أكيد الشر موجود فيه، جاء من والديه أم منه؟ كثير من الناس تترك أنفسها مقادة من عادات، أعراف، تقاليد وأصبحت جزءاً من كيانها. أصبحت شعارات نلصقها على الآخرين دون أي إكتراث للبحث عن المنطق الصحيح، أو حتى دون إفساح المجال للتفكير بإيجابية بالآخر. ونجد هنا يسوع كعادته لا يسير حسب منطق سائليه، إنما يتجاوزه، ويقول: “لتظهر فيه أعمال الله” ثم يكمل قائلاً: “أنا نور العالم” ويبدأ في الحال بإظهار هذه الأعماله “قال هذا وتفل في الأرض، فجبل من تفاله طيناً، وطلى به عيني الأعمى” إنّ يسوع بهذه الأفعال يعيدنا إلى سفر التكوين، فهو يعيد نفس حركات الله حينما جبل الانسان من تراب. يسوع يعيد عملية الخلق الجديد. حتى هنا لم تتم عملية الشفاء، يسوع لم يشفه بعد، يضع الطين على عينيه ويأمره”إذهب فاغتسل في بركة سلوان” (التي تعني المرسل). الآن يأتي دور الأعمى أو أن يؤمن بكلمة يسوع فيطيع أو لا يؤمن ويبقى مكانه على وضعه. كان بإمكانه إن يمانع قائلاً: ماذا تفعل! أتريد أن تزيد الطين بلة! كان ممكن أن يستهزئ بعمل يسوع هذا! لكننا نجده يؤمن ويذهب – رغم أنّه لا يرى شيئاً- “فذهب واغتسل فعاد بصيراً” يمكننا تخيل ما أصاب الأعمى بعد أن أغتسل! ردة فعله الأولى بعد أن شفي وأبصر ما لم يبصره من قبل! ومن هنا بدأت المشاكل “انتقل من شخص محظوط (شفيّ) إلى شخص مدّعى عليه، متهم! بدأت الكوميديا!!.
أول الأمر جيرانه بدأوا يشكون به، ويتساءلون أهو أم غيره؟ أهو الشحاذ الذي كان يستعطي أم أحد يشبهه؟ جيرانه، أي الذين كانوا يرونه كل يوم وكل ساعة الآن لا يعرفونه، يشكون فيه. ألا تدعو هذه الأسئلة إلى الحيرة والعجب؟! كيف يستطيعون عدم معرفته؟ لو تأملنا الوضع جيداً، لم يتغير فيه شيء. فقط عاد البصر إليه. لم يتغير شكله، طوله، لونه، عمره… لكن كيف لا يستطيعون التعرف عليه؟ إن من يلتقي بالرب تتغير حياته. يصبح شخصاً آخراً. يعني أنّه لا يبقى مثلما كان قبلاً يتغير من الداخل ومن الخارج. لو نظرنا إلى المراهق عندما يغرم بفتاة كيف أن حياته تتغير 180 درجة، ينقلب فوقاني تحتاني. كيف يتم هذا؟ بديهي! لقد ألتقى بشخص يبحث عنه منذ زمنٍ، ألتقى بمن يبث فيه الحياة. كذلك الأعمى عندما ألتقى بيسوع، عندما آمن وأطاع دبت الحياة فيه، ليس فقط أكتسب الرؤية، أنّما ايضاً أكتسب هويته، أصبح حراً، جريئاً. كثيراً من المرات وأنا جالسٌ وحدي يخطر في بالي بعض الأشخاص الذين كان لهم دور كبير في مسيرتي الكهنوتية، إن ذكراهم فقط تجعلني أقفز من الفرح، هذا الفرح الذي يشع مني دون أن أدرك. اللقاء الحقيقي هو بث الحياة، هو إنعاش جديدٌ لولادة جديدة.
الكل كان يتساءل ويشك فيه لأنه تبدل، لم يعد ذلك الشحاذ المستعطي “يقعد فيستعطي” الآن هو إنسان آخر، هو إنسانٌ حر، هو إنسان مختلف، هو انسان يتحرك، كان قاعداً مقعداً –إن لم يكن ميتاً فكل شيء في عينيه سواد- اليوم هو حي. والمولود أعمى يجيب قائلاً: “أنا هو” يعطي أسم الله، لا يقول: أجل أنا الشحاذ الذي كان… إنما يعطي اسم الله “أنا هو” لأن الله دخل فيه. يسوع عندما تفل، أخرج من ذاته وأعطاها للأعمى، بث يسوع من كيانه في شخص الأعمى فدبت فيه حياة جديدة. لم يعد كما كان قبلاً، أصبح فيه من شيئ من يسوع. “أما الذين قبلوه وهم الذي يؤمنون باسمه فقد مكّنهم أن يصيروا أبناء الله” فقالوا له:”كيف انفتحت عيناك” يتردد هذا السؤال في هذه المقطوعة الانجيلية سبع مرات “كيف أبصر؟ كيف فتح عينيك؟…” -إنَّ فتح العيون هو صورة مسبقة للتحرير من العبودية الذي هو فقط دور المسيا- هذه هي المرة الثانية التي يقوم بها يسوع بعملية شفاءٍ في السبت، في اليوم الممنوع عند اليهود. الذي يشغل بال الفريسيين هو مخالفة الأحكام الشرعية (عمل في السبت). لا نجد أي بصيصٍ للفرح من جهة الفريسيين. لا نجد أي نوع من الابتهاج، لا نجد ذكراً لأي عبارة تهنئة لهذا الذي شفي، لعمل الله فيه! بل على العكس نجد سلسلة من الاتهامات والاهانات. غيرتهم على تطبيق الشريعة حرمتهم لذة التمتع بمعجزات الله. كم من المرات نعارض، ونهين الآخر للدفاع عن عقيدة، عن مفهوم. أيهما أهم المفهوم أم الشخص. أمام هذا الشفاء يوجد عنصران: عنصر إيجابي إعادة البصر وعنصر سلبي مخالفة الشريعة. ولكن بما أنهم مهتمون بالكيف، بالمعرفة لا يرون أي شيء إيجابيٍ في هذا الحدث. لأنهم عبيد القوانين والأنظمة فقدوا القدرة على الرؤية، أصبحوا عمياناً، حرموا القدرة على رؤية ابداع الله في خلائقه، حرموا بهجة المشاركة في فرح الآخر. أعرف شخصاً يعمل الليل و النهار، يعمل بجد وكدٍ ويحاول أن ينجز جميع أعماله بكل إتقان ودقة، لكنه فقد فرح الحياة، أعرفه منذ سنين ، لكني لم أره مرة يضحك فيها، فقد القدرة على تذوق جمال الحياة، فقد الاحساس بطعم الحياة التي تشع من الآخرين، تحول إلى آلة، إلى روبوت، ينفذ ما يوضع فيه، للأسف أصبح عبداً للنظام والقانون.
وبما أنّ الفريسيين تعودوا على تطبيق الشريعة بحذافيرها يريدون فقط معرفة الكيف. إنّ هذا الرجل الذي ولد أعمى من سنين وهو عالة على أهله وعلى المجتمع… اليوم شفي وأصبح قادراً على الحياة باستقلالية، أصبح حرا، أصبح إنساناً جديداً…. كل هذا لم يستطيعوا رؤيته لأنهم تعودوا على تنفيذ الحرف، وبما أنّ يسوع خالف الحرف، ينهالون عليه بالأحكام، ويدينونه. إن مثل هؤلاء الأشخاص يعيشون حياة مملة، يعيشون في جحيم لأن حياتهم أصبحت إدانة في إدانة، لأننا على الأرض ولأننا لسنا كاملين، ونصدر بعض الأخطاء، فنحن في نظر هؤلاء مدانون ومحكوم علينا بالفناء. وبما أن معيارهم هو الحرف، هو القانون وليس خير الانسان يصلون إلى أنّ يسوع خاطئ.
ولحسن الحظ أنّه كان بينهم من يفكر. وقال آخرون “كيف يستطيع خاطئُ أن يأتي بمثل هذه الآيات؟” طبعاً هذا الطرح لا يعجب الفريسيين فيسألون الأعمى: “وأنت ماذا تقول فيه وقد فتح عينيك؟” فيجيب بكل جرأةٍ، لأنّه آمن، تحرر من القيود التي كان يفرضها المجتمع عليه، فقال: “إنّه نبي” فيلجأون إلى والديه ويستجوبونهما بسؤالٍ غريب محاولين زرع الشك في قلب والديه 1. “أهذا ابنكما الابن الذي تقولان إنّه ولد أعمى؟ 2. كيف أصبح يبصر؟” فيجيبان “نحن نعلم أنّه ابننا وأنّه ولد أعمى أما كيف يبصر الآن، فلا ندري ومن فتح عينيه فلا نعلمأسألوه، إنّه مكتمل السن” يوحنا يؤكد أنّه خوفاً من اليهود “قال والداه هذا لخوفهما من اليهود، لأن اليهود كانوا قد اتفقوا على أنّ يفصل من المجمع من يعترف بأنّه المسيح” كان المطرود من المجمع يسير على بعد مترين من باقي الشعب لأنه أصبح من الآثمة فلا يجب على اليهودي أن يقترب منه لكي لا ينعدي من إثمه!! الخوف يشل، والثقة تولِّد الحياة. هناك البعض الذين يعيشون في مخاوف كثيرة، فيمنعون الحياة أن تدب فيهم. يخافون من كلام الناس، يخافون من أن يرذلهم الأصدقاء، يخافون من الوحدة، يخافون ويخافون… فنجدهم متقوقعين على أنفسهم، محرمين من أدنى نوع من السعادة، لأن الخوف يكبلهم، لأن الخوف سلب منهم كيانهم وحريتهم.
فينادون من جديد الأعمى ويقولون له “مجد الله” تعبير يعني كن صريحاً مع ذاتك. وأقر أنك خاطئ. “نحن نعلم أنّ هذا الرجل خاطئ”. جميلٌ هو جواب الأعمى! “هل هو خاطئ لا أعلم، وإنما أعلم أنّي كنت أعمى وها إني أبصر الآن” وكأنّه يقول أنا لا أريد أن أدخل في نقاش عقائدي معكم لا أريد أن أدخل في مسألة لاهوتية، هذا ليس من اختصاصي، لكن أنا على يقين أني كنت أعمى والآن أبصر! لن تستطيعوا إقناعي بأعرافكم، خبرتي هي فوق كل مفاهيمكم وأحكامكم، أتريدون أن يتسلل الشك إلى قلبي وأنّه خيرٌ لي، إن بقيت أعمى على أن يشفيني خاطئ!! هذا رأيكم لكن خبرتي تقول لي شيئا آخر، خبرتي هي إيجابية كنت أعمى والآن أرى.
الأعمى يتكلم ليس عن عقائد عن أمور نظرية إنّما عن خبرة شخصية حقيقية وواعية (آمن وأطاع فشفي). وهنا من جديد إلحاح السؤال. كيف فتح عينيك؟ يختارون المعرفة عن الشخص (كما أختار أدم وحواء شجرة معرفة الخير والشر عن شخص الله) فيجيبهم باسلوب تهكمي “لقد قلته لكم فلم تصغوا، فلماذا تريدون أن تسمعوه ثانيةً؟ أتراكم ترغبون في أن تصيروا أنتم أيضاً تلاميذه؟” فشتموه” عندما لا يجد الشخص الضعيف إجابة يبدأ بالشتيمة، بالصراخ، بإهانة الآخر، يرفض أن يفكر بما قيل، يرفض العودة إلى الذات ويعتبر إختلاف الرأي تهديدا له فيبدأ بالهجوم “فشتموه” هذا هو جواب الضعيف الذي تعود أن يعيش خارج ذاته “أنت تلميذه أما نحن فإننا تلاميذ موسى”. إن جواب اليهود يؤكد فشلهم، نحن لا نريد أن نتتلمذ على يد حي (الرب يسوع) نحن راضون بالتتلمذ على يد ميت (موسى). ويختمون قائلين “نحن نعلم أن الله كلم موسى أم هذا فلا نعلم من أين هو”فيستغرب الأعمى من عمى اليهود قائلاً “فعجيبٌ أن لا تعلموا من أين هو وقد فتح عيني، نحن نعلم أنّ الله لا يستجيب للخاطئين”يستغرب من موقفهم، أمعقولٌ أنه امام هذا الخير الواضح تعارضون، غريبُ أمركم. وعندما يجدونه أقوى منهم يطردونه من مجمعهم. الولود أعمى الآن خارج المجمع!! وفي الحال يقول الانجيلي “فسمع يسوع أنهم طردوه فلقيه وقا له أتؤمن بابن الإنسان؟ أجاب ومن هو يارب فأمن به؟ فقال له يسوع الذي يكلمك” المولود أكتسب هذه الجرأة والحكمة لأنه وثق بكلام يسوع وشفي –إيمان جزئي، ثقة- الآن يحاول يسوع أن يسانده في إيمانه، ليعمق خبرته مع يسوع. ويظهر له حقيقته. فنجد أنّ الأعمى يقول: “آمنت، يارب، وسجد له” وصل الى الإيمان الحقيقي، الى تسليم كل حياته ليسوع، السجود علامة الخضوع الكامل.
الأعمى هو كل واحدٍ منّا، إن الله مازال يسير في وسطنا وينظر إلينا، ومن الممكن أن يعرض عليّ طلباتٍ غريبة (طين، تفل، أغتسل) يطلب مني أموراً جديدةً لكي يحررني. يسألني الايمان وينتظر إجابتي، فإن كانت نعم، نعمت ببهجة الحياة، وإن قلت لا بقيت مكبلاً في مخاوفي. إنّ الله لا يتجلى في الكتب، بل في الحياة، أحياناً يطلب مني أن أتحدى الواقع والظروف لكن أن تسلحت بالثقة به تدب الحياة في وانتعش جرأة وإرادة قوية. فأشع وأتبدل فأولد من جديد. (يو9، 1-41).