الأحد الرابع -يوسف والبث السماوي- الأب داني قريو السالسي
يوسف والبث السماوي
الأب داني قريو السالسي
إن القديس متى يقدم لنا هذا الاحد بشارة الحبل الإلهي من جهة الأب: (النسب، وبشارة يوسف). على خلاف لوقا البشير الذي يسرد لنا حدث البشارة لكن من جهة الام (مريم العذراء، البشارة، الزيارة لنسيبتها، تعظم، الولادة وقدوم المجوس…).
إن القديس متى يقدم فصلاً كاملاً عن يوسف الصديق، هذا الخطيب البار، وكل مانعرفه عنه هو في الفصلين الأولين، وبالرغم من أنه يخصص كل هذا الكم عنه لانجد ولا كلمة واحدة ينطقها أو يضعها على لسانه. إن يوسف هو رجل الصمت، هو رجل الخفاء والظل. على عكس انسان اليوم الذي يبحث ويصارع لأن يظهر ويُعرَف، الذي يجاهد لكي يكون مشهوراً ومعروفاً.
يقدم لنا القديس متى من خلال إنجيل هذا الأحد “رسالة” يقول فيها أنَّ يسوع الذي هو من سلالة الملك داوود، هو نفسه ابن الله؛ وبنفس الوقت نجد قبول “رسالة الله” هذه من قبل الانسان: من قبل يوسف الذي يصغي فيُطيع حتى ولو لم يفهم ماذا يحدث. يقبل ويُطيع لأنه “بار” لأنه “صدّيق” لأنّه يحب، لأنه منفتح، لأنه حر. ويوجد أيضاً الوسيلة: التي هي الحلم الذي هو الرسالة العظيمة والفخمة، وفي الوقت نفسه الرسالة غير المفهومة المربكة، التي من الصعب قبولها، وتطبيقها أو عيشها.
إن الله يكلمنا دائماً، في كل يوم وفي كل لحظة، ولا يكف عن مخاطبتنا. لديه رسائل خاصة يريد أن يوجهها الينا. يبعثها إلينا بكافة الطرق وشتى الوسائل عن طريق (أشخاص، لقاءات، مواقف، ظروف، خبرات…). لكن على الإنسان أن يكون مصغياً، منفتحاً، حساساً، ليستضيف هذه الرسالة وإلا فلن تُقرأ أبداً ولن تُفك رموزها.
إنَّ النص يدور حول حمل مريم وما يترتب عليه من نتائج… فيقول: أنَّ مريم “وجدت قبل أن يتساكنا حاملاً من الروح القدس”. يوسف يرى خطيبته حاملاً فلا يعود يفهم شيئاً، لا يعود يفهم البتَّ. أمل حياته، هذه الصبية التي أختارها وأحبها وقرر أن يعيش معها إلى الأبد … يكتشف أمراً فظياً، فلا يستطيع أن يجمع تفكيره. إنَّه لأمرٌ طبيعيٌ ألا يفهم شيئاً، إنَّه لأمرٌ طبيعيٌ أن يتخبط في أفكاره ويحتار، ولا يعرف كيف يتصرف. كم مرة حدث لنا نفس الشيء، أحداث غير متوقعة، غير مفهومة، فلا نفقه شيئاً، ونجد أن مخططاتنا ومشاريعنا لا تجدي نفعاً فندخل في حيرةٍ من أمرنا. نجد هنا أيضاً رجلاً في حيرة من أمره أمام حدث غير مفهوم وامرأة لا تنطق بكلمة، ولا تقتح فاهاً. يوسف يجد نفسه في الظلمة، في الليل الحالك، في الشك والالتباس. “وكان يوسف زوجها باراً، فلم يرد أن يشهر أمرها، فعزم عل أن يطلقها سراً. ولكن في الليل يجد النور يتسرب إليه: حلمٌ خاص. حلمٌ يقال له فيه ما عليه أن يفعل: “يا يوسف ابن داوود، لا تخف أن تأتي بامرأتك مريم إلى بيتك…”
الانجيل يقول أنَّ يوسف كان باراً؛ كلمة بار (صدّيق) لا تدل على التصرف الاخلاقي، أو مسلكيات الحياة، إنما كلمة بار حسب الكتاب المقدس تعني من هو في علاقة خاصة، حميمية مع الله، البار هو الأمين والمحافظ على الشريعة (ابراهيم، اسحق، يعقوب، موسى جميعهم كانوا أبراراً).
الشريعة كانت تقتضي: “الطلاق”، أو بالأحرى حسب سفر تثنية الاشتراع عقوبتها هي “الرجم”. لكن يوسف كان يحب مريم خطيبته، وكان يرغب في الزواج منها. يرى أنه خُدعَ لأن خطيبته حامل. بالتالي يجب أن ترجم حسب الشريعة، لأن الشريعة تقتضي هذا. يوسف لم يُطع (يطبق) الشريعة، إنما يُطيع القلب. قلب الشريعة هي شريعة القلب. البر ليس في القتل والتعذيب؛ فيوسف هو “ابن العهد الجديد”!
يوسف بار لأنه يُحب. ليس فقط الله إنما أيضاً ابناء الله. يوسف بار لأنه يذهب إلى ما وراء الشرف المجروح والسمعة المتلطخة (خطيبته الحامل). كما يقول القديس أغسطينوس: “أحبب وافعل ما تشاء” اليوم نجد الكثيرين من الذين يعيشون “العين بالعين والسن بالسن” لأنّك فعلت لي هكذا سأعيد الكيل كيلين!! سأريك! أصبحت سمعتنا في الأرض. ماذا سأقول للناس؟ أين أخفي وجهي من نظرات الناس؟!” بالتالي الأفضل أن أطبق “العين بالعين والسن بالسن والبادي أظلم”. هل البر هو في تطبيق هذا النوع من الشرائع؟ كثير من الناس لديهم “أنا” هش، لا يستطيعون قبول أي إحباط، أو أي فشل. لا يستطيعون قبول إي جرح أو ألم؛ فمجرد أنهم تكبدوا جرحاً ما من شخصٍ ما يحاولون الرد والانتقام بأضعاف ما تلقوا (بالكلام، بالاعمال، بالقيل والقال…).
نجد هنا تدخل الله في الحلم. إنَّ القديس متى يسرد خمسة أحلام خلال فصلين. (الكتاب المقدس هو غنيٌ بالأحلام والرسائل التي يرسلها الله للبشر). إنَّ الحلم يكشف ماهو صعب بالنسبة إلينا، ما هو غير متوقع ومرتجى. بالحلم نرى ما لا نريد رؤيته، نسمع ما لا نريد سماعه. نرى حقيقتنا العميقة البعيدة عنا وعن تصوراتنا.
إنَّ الحلم بالنسبة الى كثير من الناس هو حكايات فارغة، تافهة لا معنى لها، للتسلية وقضاء الوقت ليس أكثر؛ إنَّ رسائل الأحلام هي حقائق إن قبلناها وحللنا رموزها لفتحت أمامنا آفاقا جديدة وتطلعات خلابة. إنَّ الحلم هو أكثر واقعية مما نعتقد لأن الحلم يتكلم عنّا حتى لو لم نكن نريد، حتى لو رفضنا مايقوله لنا. إنَّ معرفة الأحلام الخاصة هي تدريب شديد على التواضع. لأن الحلم يقول لي: “أنت في السجن، أتدرك ذلك؟! الحلم هو ما تهرب منه في النهار فيتبعك ويظهر لك في الليل. لديك حالة من الغضب العارم فتحلم أنك تتكلم بعنف، تنظر بكراهية، تصرخ و تصفع… وعندما تفقد السيطرة على ذاتك ولا تستطيع التحكم بها فتحلم وكأنك تقود سيارة مسرعة من دون مكابح. تشعر أنك فقدت الثقة بذاتك… فتحلم بأنك تسقط، وتصرخ النجدة ولكن لا تسطيع حتى الصراخ. ينقصك شيء فتحلم أنك متأخر عن موعد هام…”
ممكن أن لا نأبه لكل هذا! إنَّ الخيار الذي نأخذه تجاه أحلامنا هو نفس الموقف الذي نأخذه تجاه أنفسنا. لأنك لوقبلت هذه الرسالة لما بقيت كما كنت قبلاً وهذا يتطلب منّا عملاً جديداً وهذا ما يزعجنا لهذا نتجنبها أو نتغاضى عنها (فنطنشها) ونقول : “إنّه مجرد حلم، إنّه هراء، إنّه وهم أو خيال…” هناك البعض الذي يلجأ إلى استشارة كتاب عن تفسير الأحلام، فيجد أن هذا الرمز يدل عن هذا الأمر. السؤال هو ماذا يعني هذا؟ ولكن السؤال الأهم هو ماذا يقول لي هذا؟ لا يجب أن أسأل الخبير، إنَّما عليَّ أن أتعلم الإصغاء إلى الأحلام، أن أتمرن على فك الشفرات وحل ألغاز هذه الصور. الحلم ليس مسألة فضول إنّما هو رسالة من ضميري، رسالة من الله إليَّ، رسالة خاصة لي ولمن حولي. الرسالة الأعمق التي يوجهها إليَّ أنا بالتحديد، يوجهها الي هنا والآن. الحلم ، إذاً، ليس مجرد نزوة عقلية إنما دفع وحثٌ على العمل وأخذ القرار المناسب، هو إنذار لأكون أكثر جدية في الامور العميقة والحساسة في حياتي. الحلم هو مسيرة، هو طريق، ممكن أن أصدقه أو لا! كل هذا يعتمد عليَّ.
فإن تمعنا في إنجيل هذا الأحد وفي الفصول التي تليه لوجدنا إنَّ يوسف بفضل الحلم يأخذ مريم كامرأة له. “لا تخف أن تأتي بامرأتك مريم إلى بيتك، فإن الذي كوّن فيها هو من الروح القدس” وبفضل الحلم لا يرجع المجوس إلى هيرودس “ثم أوحي لهم بالحلم ألا يرجعوا إلى هيرودس، فانصرفوا في طريقٍ آخر إلى بلادهم”. بفضل إيمان يوسف بالأحلام لم يُقتل يسوع “قم فخذ الطفل وامه واهرب إلى مصر… لأن هيرودس سيبحث عن الطفل ليهلكه”. وبفضل حلمٍ يعود من مصر إلى بلده “قم فخذ الطفل وامه واذهب إلى أرض أسرائيل، فقد مات من كان ريد إهلاك الطفل”. وبفضل حلمٍ آخر لا يذهب إلى اليهودية بل إلى الجليل لأن ابن هيرودس هناك كملك “فأوحيَّ إليه بالحلم فلجأ إلى ناحية الجليل وجاء إلى مدينة يقال لها الناصرة سكن فيها”. ونجد العكس ما حدث مع بلاطس فلم يصغ الى حلم زوجته التي قالت له أن يسوع بريء بقولها له: “دعك وهذا البار، لأني عاينت اليوم في الحم آلاماً شديدة بسببه ” فأتم جريمة الصلب.
كم مرة سمعنا البعض يقول: “إنَّ الله لا يقول لي شيئا أبداً! الله لم يخاطبني أبداً! أنا لم أسمع صوته مطلقاً…”. سؤالي هو كيف تريد أن يخاطبك الله؟ وعن طريق ماذا تريد ن يتكلم معك؟ إنَّ الله يوجه كلمته إليك عن طريق الانجيل، عن طريق التأمل، عن طريق الصمت. وبما أنك لا تفعل أي شيء من هذا القبيل فلن تسمعه. ولكن الله لا يكف عن مخاطبتك ويكرر كلامه اليك عن طريق الأحداث والمواقف والظروف واللقاءات والأشخاص…. وبما أنك لا تصغي لأحد، وبما أنك لا تتوقف لحظة واحدة، فأنت مشغولٌ طوال يومك، تركض من هنا إلى هناك حيث ليس لديك الوقت لأن تصغي لنفسك بالتالي كيف ستسمعه؟ نهارك كله ممتلئ؟ ولكن الله لا ييأس يتابع توجيه رسائله إليك، إن لم يكن لديك الوقت في النهار فهو يزورك في الليل يزورك في الحلم، ويسلم رسالته إليك. فترى ما لم تره في النهار، وتسمع ما لم تسمعه في النهار. وهنا يأتي دورك في فك رموز رسالة الله اليك.
البار هو الصدّيق والصدّيق هو صديق الله، من يُخاطب الله ويخاطبه الله. مَن له هذه العلاقة الحميمية مع الله يلتقط رسائله في النهار أو في الليل. الصدّيق هو الذي ألِف كلمات الله وطرقه، هو الذي تعود على تمييز صوته من بين آلاف الأصوات، هو الذي تدرب على قراءة الأحداث بعيون الله.
فلنولّف موجاتنا حسب ترددات إذاعة راديو الله.