مقدمة: تتركز دراسة الحياة المسيحية في وصف الحياة النموذجية مع المسيح وفي المسيح. وتهدف الحياة المسيحية إلى نمو صورة الله في الإنسان. وتتأثر صورة الله في الإنسان بالأعمال البشرية التي تؤهله للسعادة الأبدية. ولسوء الحظ فإن بعض الأعمال البشرية لا تؤهل الإنسان للسعادة الأبدية، بل تحرمه من الحصول عليها لأنها تدمر شركة الحياة مع المسيح، الضرورية بصورة مطلقة لتحقيق غاية الحياة. لذا فإن فقدان الحياة في المسيح أو فقدان النعمة يؤدي إلى الخطيئة. إنه لمن غير الممكن دراسة الحياة البشرية دون مواجهة حقيقة وواقع الخطيئة. وهناك اعتبار آخر. هو أنه لا يمكن فهم تجسد المسيح وعمله الخلاصي إلا بوجود فكرة واضحة لدى الإنسان حول ما قام به السيد المسيح لخلاص الجنس البشري أي تحريره من الخطيئة. ولا يسع الإنسان أن يقدّر أهمية حياة المسيح، وموته، وقيامته ملء التقدير إلا بعد فهمه لحقيقة الخطيئة. أولاً: الكتاب المقدس
1) العهد القديم أ- ماهية الخطيئة:
فكرة الخطيئة موجودة في كل صفحة تقريباً من صفحات العهد القديم. وتوصف عادة بعبارات مستمدة من العلاقات الإنسانية. والخطيئة هي انحراف عن الهدف، فشل في تحقيق هدف، إهمال الواجب، نكث بالعهد، ظلم وفساد الإنسان، ثورة وإساءة الله، إجحاف، تدنيس، وكذب وحماقة.
ب- سبب الخطيئة:
إن تجاهل الإنسان لله تعالى هو سبب الخطيئة (هو1:4و6). تنبعث الخطيئة من القلب الشرير (ار24:7). ويُلقي العهد القديم المسئولية كاملة على الإنسان لأعماله الخاطئة. وهو لا يعرف الأسباب النفسية لتخفيف المسئولية البشرية. ولا يجيب العهد القديم على التساؤل القائل كيف للخطيئة أن تدخل إلى عالم تحكمه قوة الله الخلاصية؟ لقد أخطأ أبوا الجنس البشري لأنهما رغبا في أن يصيرا “كآلهة عارفي الخير والشر” (تك5:3). فقد رغبا أن يقررا ما الخير وما الشر مثل الله. لذا فقد أثرت الخطيئة (الأصلية) على جميع البشر فاتجهت حياتهم نحو الفساد (تك 4-11).
ج- نتيجة الخطيئة:
إن النتيجة الرئيسية للخطيئة هي الموت (تك3، حز4:18). ويعلمنا العهد القديم أن الخطيئة تجلب اللعنة والكارثة. وحسبما قال الأنبياء فسقوط إسرائيل هو النتيجة الحتمية للخطيئة القومية. ورغم هذا فالعهد القديم يقدم الأمل. وقد أنبأ بالهزيمة النهائية للخطيئة والشر (تك15:3). وقد سبق وأن ورد في سفر التكوين أن الخير كان يملأ أسرتي نوح وإبراهيم. ومن خلال إبراهيم ستتبارك أمم الأرض جميعها (تك 2:12-3). فالله نفسه يبحث عن الخراف المشتتة (حز34). ويعود الإنسان إلى الله بنكران الذات والخضوع لله. فبعد سقوط مملكتي إسرائيل ويهوذا أصبحت الخطيئة تعني بصورة مبدئية مخالفة للشريعة. وكان يعتبر غير اليهود خطأة لأنهم لم يحافظوا على الشريعة. ويظهر الشيطان في هذه الفترة كمغو (حك 24:2). وسيظهر بهذه الصورة ثانية في العهد الجديد.
2) العهد الجديد: يستعمل العهد الجديد كلمتين من اليونانية “همارتيا” (Hamartia) و “همارتيما” (Hamartema) للدلالة على حقيقة الخطيئة. وتعتبر الخطيئة فعلاً، أو حالة أو ظرفاً وقوة. ومهما كانت الخطيئة فإن يسوع المسيح قادر على قهرها.
أ- الأناجيل الإزائية:
في الأناجيل الإزائية من العهد الجديد يمارس يسوع مهامه بين الخطأة لأنه جاء “لدعوة الخطأة لا الصالحين إلى التوبة” (مر 17:2). ويعترف يسوع أن الأعمال الرديئة تصدر عن القلب (مر21:7). ومثل الابن الضال يعلمنا أن الخطيئة إساءة لله، وأن الغفران ممكن بعودة الخاطئ لله (لو 17:15-32). وقد سفك يسوع دمه، دم العهد، بالنيابة عن الكثيرين لمغفرة الخطايا (مت 28:26). وهناك فرح في السماء لعودة الخاطئ (لو 7:15و10).
ب- كتابات يوحنا:
نجد في كتابات يوحنا تعبيراً واضحاً عن شر الخطيئة. فالخاطئ يحب الظلمة أكثر من النور خشية أن تنكشف أعماله الشريرة (يو19:3-20) إن كل من يعيش في الخطيئة يكون عبداً للخطيئة (يو34:8) وعبداً للشيطان (1يو 8:3-10). والخطيئة مخالفة للشريعة (1يو 4:3)، واثم (1يو 17:5)، وشهوة الجسد وشهوة العين وكبرياء الغنى (1يو 16:2). وفي هذه الفقرات، تدل الخطيئة غالباً على ظرف أو حالة تكون نتيجة لفعل خاطئ. ويرى يوحنا أيضاً القوة الشيطانية وراء أعمال الفرد الشريرة (يو34:8، 1يو 8:3-10). وبالنسبة إلى يوحنا فيسوع هو قاهر الخطيئة. وهو نفسه بلا خطيئة (يو 46:8، يو 5:3). وهو الحمل الذي يزيل خطايا العالم (يو29:1). وهو كفارة عن خطايا الجميع (1يو2:2، 10:4).
ج- كتابات بولس:
تحتوي كتابات بولس، خصوصاً القسم الأول من رسالته إلى أهل روميه، على دراسة لاهوتية مكتملة نسبياً عن الخطيئة. ففي عدة أماكن يضع بولس قوائم لهؤلاء الخطأة وهم: الزناة وعباد الأوثان والفسّاق ومضاجعو الذكران والسارقون والبخلاء والسكيرون والشتامون وآخرون وجميعهم لن يرثوا ملكوت السماوات (1كور 9:6-10، غل 19:5-21، الخ). ويقع اليهودي واليوناني كلاهما تحت سيطرة الخطيئة، فجميع الناس قد أخطأوا ولا يحصلون على مجد الله (رو 1:2-31:3). وتحكم الخطيئة كقوة في العالم. وقد جلب آدم الخطيئة إلى العالم بتمرده ودخلت إلى جميع الناس (رو 12:5-19). إن أجرة الخطيئة هي الموت (رو23:6)، وشمول الموت يبرهن أن جميع الناس خطأة (رو12:5). وتستعبد الخطيئة الإنسان فيعجز عن القيام بما هو صواب حتى لو أراد ذلك (رو 15:7-25). إلا أن بولس يعطينا الأمل. فإذا كان التضامن مع آدم قد ورط الجنس البشري في الخطيئة والموت، فإن التضامن مع المسيح جلب له البراءة والحياة (رو15:5-19). والمسيحي وقد تبرر بالإيمان وبالمعمودية لبس المسيح (غل27:3-28). فإذا كان الواحد مع المسيح فهو خليقة جديدة (2كور 17:5). فهو لم يعد يسلك حسب الجسد ولكن حسب الروح (رو9:8).
ثانياً: تعليم الكنيسة
الخطيئة هي الابتعاد عن الله، وهي إساءة له، ومخالفة صريحة لشريعته، والخاطئ هو عدو الله، وهناك فرق بين الخطايا المميتة والعرضية:
1) الخطيئة المميتة:
إن نتيجة الخطيئة المميتة معاداة الله، وخسارة النعمة المبررة والبركة الأبدية، والابتعاد عن ملكوت السماوات، والخضوع للشيطان، والهلاك الأبدي في الجحيم. ولكن الخطيئة المميتة لا تزيل الإيمان. 2) الخطيئة العرضية: أما الخطيئة العرضية فهي ذلك النوع الذي يقع فيه حتى القديسون من بني البشر. وباستثناء امتياز خاص، لا يستطيع الفرد تجنب الخطايا العرضية طوال حياته. ولا يسع الإنسان إلا أن يقول بصدق إنه خاطئ. فالخطيئة العرضية لا تزيل النعمة المبررة، إلا أن تطهيرها قد يكون ضرورياً بعد الموت. وقد شجبت الكنيسة الفكرة القائلة إنه لا توجد خطيئة عرضية بطبيعتها، وإن كل خطيئة تستحق الهلاك الأبدي. إن إرادة الشخص الخاطئ هي السبب الأول للخطيئة. فليس الله سبب الخطيئة كما إنه لا يطلب المستحيل. الشيطان أيضاً هو سبب الخطيئة مادام هو المغري. وعلى الإنسان أن يهرب من مناسبات الخطيئة وأن يقاوم المغريات.
3) الخطيئة الشخصية والخطيئة الاجتماعية:
يركّز قداسة البابا يوحنا بولس الثاني في إرشاده الرسولي “بشأن المصالحة والتوبة في رسالة الكنيسة اليوم” على المعنى الاجتماعي للخطيئة. ويتلخص تعليمه في هذا الشأن في الأفكار التالية: أ- الخطيئة الشخصية: الخطيئة بالمعنى الحصري فعل الفرد لأنها فعل حرّ يقوم به أحد الناس ليس حصراً، فئة أو جماعة، بالرغم من أنه قد يتعرّض لضغوطات اجتماعية تقلل من مسئوليته وتخفف من حريته. وتقع أولى نتائج الخطيئة وأخطرها على الخاطئ عينه: أي على علاقته مع الله، أساس الحياة البشرية، وعلى عقله، فتضعف إرادته وتظلم بصيرته.
ب- الخطيئة الاجتماعية: هناك ثلاثة معانٍ لهذه العبارة: 1- المعنى الأول: إن خطيئة كل من الناس، بقوة ما بينهم من تضامن عجيب، تؤثر بطريقة ما، على الآخرين. وهذا وجه من التضامن الذي يتطور على الصعيد الديني في سر “شركة القديسين” لذلك يمكن التحدث عن “الشركة في الخطيئة” وتنحدر النفس منها بالخطيئة، فتنحدر معها الكنيسة، ونوعاً ما، العالم كله. وبعبارة أخرى، ما من خطيئة، ولو كانت على أكبر قدر من الحميمية والسرية والفردية، تهم فقط من ارتكبها وحده. لأن كل خطيئة، كبر أو صغر حجمها، كثُر أم قل أذاهل ينعكس أثرها على الجماعة الكنسية كلها، وعلى العائلة البشرية جمعاء. وبهذا المعنى يمكن اعتبار كل خطيئة؛ خطيئة اجتماعية.
2- المعنى الثاني:
من الخطايا ما يشكّل بموضوعه إساءة مباشرة إلى القريب والإخوة. فهي إهانة لله لأنها إهانة للقريب. ولهذا تدعى خطايا اجتماعية. فكل خطيئة تقترف ضد العدل (في العلاقات بين الأشخاص بين الشخص والمجتمع وبين المجتمع والشخص) تسمى خطيئة اجتماعية ومنها كل خطيئة تمس حقوق الإنسان، ولاسيما حق الحياة. أو تقترف بحق الخير العام: حقوق المواطنين وواجباتهم، كما إن كل إهمال يرتكبه الحكام ورجال الاقتصاد يعتبر من الخطايا الاجتماعية.
3- المعنى الثالث:
ويتناول العلاقات القائمة بين مختلف الجماعات البشرية: حرية، عدالة، سلام، ومن هنا فإن: – صراع الطبقات هو شر اجتماعي. – الخصومات المتمادية بين الأمم والفئات هي شر اجتماعي. على مَن تقع المسؤولية إذاً في هذه الأحوال، وهل تعفي من المسؤولية الشخصية؟ – إن كل خطيئة هي اجتماعية، بمعنى أن مسؤوليتها لا تقع على الضمير الأدبي لشخص معين بقدر ما تقع على كيان مبهم أو مجموعة لا اسم لها مثل الحالة والنظام والمجتمع والمؤسسة إلى ما شابه ذلك. – إن الكنيسة في هذه الحالة تعلن أن الخطيئة الاجتماعية من هذا النوع هي نتيجة عدة خطايا شخصية متراكمة مترابطة. ففي أساس كل وضع أو حالة خطيئة، يوجد أناس خطأة. 4) المسيح بوساطة الكنيسة يغفر الخطايا المسيح هو منبع غفران الخطايا بوساطة عذاباته، إلا أن الكنيسة هي الوسيط لغفران الخطايا. وقد جُعلت المعمودية لمغفرة الخطايا السابقة للمعمودية. وقد جُعل سر التوبة لمغفرة الخطايا ما بعد المعمودية. وحتى قبل التقدم من سر التوبة، بإمكان الندامة الكاملة مغفرة الخطايا، شريطة أن تكون لنا النية في التقدم من السر في أول فرصة سانحة. وتُغفر الخطايا العرضية بعدة طرق غير سر التوبة. ويوصي بالقربان دواء لعلاج الخطيئة. 5) المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني: وقد كتب المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني يعلمنا بقوله: “لقد أقام الله الإنسان في حالة من البرارة. غير أن الشرير أغواه منذ بدء التاريخ فأساء استعمال حريته واقفاً في وجه الله، راغباً في أن يصل إلى غايته بدونه تعالى. لقد عرفوا الله غير أنهم لم يعبدوه كإله… فاظلم قلبهم الغبي “وخدموا الخليقة وفضلوها على الخالق”. وإن ما يبينه لنا الوحي الإلهي بهذه الصورة يثبته اختبارنا بالذات. فالإنسان، إذا تفرّس في أعماق قلبه، يكتشف أنه ميّال أيضاً إلى الشر، تغمره ويلات كثيرة لا يمكن أن تأتيه من خالقه لأنه صالح. فغالباً ما رفض الإنسان أن يعترف بأن الله هو مبدأه ولذلك نقض النظام الذي كان يوجهه نحو غايته الأخيرة وحطم كل تناغم أمّا بالنسبة لنفسه أو لسائر الناس أو للخليقة كلها” (الكنيسة في عالم اليوم-13).
6) الخطيئة والخيار الجذري: تطرّق البيان الصادر عن “المجمع المقدس للعقيدة والإيمان” بالتالي إلى الحديث “حول الأخلاقيات الجنسية” وتكلم عن الخطيئة والخيار الجذري: “إن الخيار الجذري هو الذي يحدد في نهاية الأمر استعداد الإنسان الأخلاقي. ولكن يمكن تغيير هذا الخيار عن طريق أفعال منفردة، خصوصاً، كما يحدث غالباً، عندما تسبق هذه الأفعال أفعال أكثر سطحية”. ومهما كان الحال فمن الخطأ القول أن الأفعال المنفردة ليست كافية لتكوين خطيئة مميتة. فبمقتضى تعاليم الكنيسة ليست الخطيئة المميتة معارضة لإرادة الله، ومخالفة رسمية ومباشرة لوصية المحبة وحسب، بل إنها مقاومة للحب الحقيقي، لا سيما إذا كانت مخالفة متعمدة، في المسائل الثقيلة لكل من القوانين الأخلاقية. ويتابع البيان موضحاً: “أشار يسوع المسيح إلى الوصية الثنائية للمحبة كأساس للحياة الأخلاقية. وعلى هذه الوصية تقوم الشريعة بأجمعها. ولذلك فهي تشمل الأوامر الخاصة الأخرى… فالشخص إذاً يرتكب خطيئة مميتة ليس فقط عندما يصدر عمله عن امتهان مباشر لمحبة الله والقريب ولكن عندما يختار، بوعيه وحريته، ومهمل كان السبب، أمراً مغلوطاً في موضوع هام. فاختياره في الأصل يتضمن، كما ورد سابقاً، امتهاناً للوصية الإلهية: فيبتعد الفرد بعيداً عن الله ويفقد المحبة” (رقم-10). ثالثاً: التفكير اللاهوتي:
1) طبيعة الخطيئة:
أ- الخطيئة مخالفة إرادية: الخطيئة إساءة إلى الله، ومخالفة إرادية لشريعته. وحتى المخالفة الطوعية للقانون البشري تُعتبر خطيئة، لأن شريعة الله هي أساس التشريع البشري. وليس من الضروري للإنسان لارتكاب خطيئة أن يكون شاعراً بالإساءة إلى الله. وعلى الكائنات العقلانية واجب التصرف بطريقة تتلائم مع طبيعتها. فإذا تصرّف الإنسان بخلاف طبيعته فإنه يخطئ، بصرف النظر إذا كان الفرد يفكر في الله أو لا. ومن هنا فقد رفضت الكنيسة الخطيئة الفلسفية. وبعبارة أخرى فلا يوجد فعل يخالف الطبيعة البشرية والتفكير السليم دون أن يكون إساءة لله- حتى عند شخص يجهل الله. إن العنصر الذي يجعل ذلك العمل خاطئاً، هو صفة البُعد عن الله الكامنة في هذا العمل. فالخطيئة هي ثورة على الله. ويرغب المخلوق البشري الخاطئ أن يكون مستقلاً عن الله- وأن يقرر لنفسه ما هو الخير والشر. وفي ضوء هذا فاصطلاح: الخطيئة، يشير مبدئياً إلى الخطيئة المميتة قياساً إلى الخطيئة العرضية.
ب- الأقل كمالاً:
وليس طبيعياً اعتبار النقص أو عدم الكمال شيئاً مساوياً للخطيئة. ويعتبر النقص أحياناً بأنه إهمال عمل غير مجبر القيام به إنما أمر محبذ. وإذا فهمنا الأمر على هذا النحو فالنقص بالتأكيد ليس خطيئة، إذ إن ما ينصح به يترك للخيار الحر للشخص الذي يقوم به. كما أنه لا يجوز معادلة النقص بالخطيئة العرضية. واعتبار الخطيئة العرضية “غير المقصودة” نقصاً هو بلبلة في الاصطلاحات، إذ إن الفعل غير المقصود تماماً خارج عن ميدان الأخلاق: وفي الواقع فالنقص إهمال لفعل حسن أو أحسن، كالتخلف مثلاً عن حضور القداس في يوم من أيام الأسبوع أو إعطاء خمسة جنيهات للفقراء عندما يستطيع إنسان أن يدفع عشرة. إن مثل هذا النقص ليس خطيئة، لأن الإنسان ليس ملزماً دائماً بعمل الشيء الأحسن. وبناء على المبدأ القائل إن كل فعل إما أن يكون حسناً أو شريراً، على الإنسان أن يعتقد أن الفعل الذي يدعي بالناقص أو الأقل كمالاً هو جيد. فالفارق هو نفسه بين الحسن والأحسن لا بين الحسن والأسوأ.
ج- الشروط لاعتبار عمل ما خاطئاً:
1- إذا كان الفعل نفسه مغلوطاً (أي بعيداً عن النظام الخلقي)، بحيث يخفق في الانسجام من ناحية ما مع مقاييس السلوك البشري.
2- إذا كان القائم بعمل يدرك أن ذلك الفعل مغلوطاً أو ناقصاً. وهذا الإدراك عقلي.
3- وإذا وافق الفرد أن يتصرف بهذه الطريقة المغلوطة. فالموافقة هي فعل الإرادة. وإن لم تستوف واحدة من هذه الشروط، يفقد الفعل طبيعته الخاطئة.
د- الخطيئة الأصلية والشخصية: 1- الخطيئة الأصلية: وهي حالة الابتعاد عن الله، وهي التي ولد فيها الجميع نتيجة لخطأ آدم.
2- الخطيئة الشخصية: وهي فعل إرادي لفرد يخالف شريعة الله. وقد تكون الخطيئة الشخصية:
– فعلية (actual) أو حالية (habitual):
والخطيئة الفعلية هي الفعل البشري الخاطئ نفسه. وهي خطيئة الارتكاب بمخالفة أمر سلبي، كالأمر الإلهي ضد السرقة. إن الخطيئة الفعلية هي خطيئة الإهمال إذا خالفت أمراً إيجابياً كالأمر الكنسي بالصوم في أوقات معينة ويمكن ارتكاب الإنسان خطيئة بالفكر أو بالقول أو بالفعل أو بالإهمال. والخطيئة الحالية هي الحالة الخاطئة التي هي نتيجة الفعل.
– مادية (material) وحقيقة (fomal) مادية عندما يقوم شخص بارتكاب شيء خاطئ موضوعياً بدون أن يدرك ذلك. وحقيقة وهي تتحقق عندما يتوافر الوعي والإرادة.
– مميتة وعرضية:
مميتة عندما تسبب موتاً روحياً بتجريد الفرد من الحياة الإلهية. عرضية عندما تقلل من حماسة الحب. وسنعود فيما بعد للفروق بين الخطيئة المميتة والخطيئة العرضية. إن القديسين في السماء يشاهدون الله ويحبونه كما هو، وتدفعهم قوة طبيعتهم إلى الاتحاد به. أما البشر على الأرض فإنهم لا يشاهدون الخير المطلق لكي يرتبطوا به. فهم لا يشاهدون سوى انعكاسه في الفضائل الخاصة التي يستطيعون عدم الاكتراث بها. فهم يستطيعون الانتقاء والاختيار من بين هذه الفضائل الخاصة، ويقومون أحياناً باختيارات خاطئة تتعارض مع دعوة الله. ومن هنا تأتي إمكانية الخطيئة.
2) أنواع الخطايا:
يمكن تمييز الخطايا من الناحية النوعية والناحية العددية. ولهذا التمييز علاقة هامة بسر التوبة إذ إن الشريعة تُلزم الخطاة على الاعتراف بخطاياهم المميتة بحسب نوعها وعددها.
أ- الناحية النوعية:
حسب تعليم توما الإكويني تتميز الخطايا من ناحية أنواعها تبعاً للموضوع الذي تميل إليه بحكم طبيعتها. هذا الميل بالذات هو الذي يحدد الأخلاق الموضوعية للخطايا ويجعلها في أنواع مختلفة. وهكذا فالقتل يتميز بصورة خاصة عن السرقة، ذلك لأن القتل يقضي على حياة الإنسان، بينما السرقة تأخذ منه ممتلكاته. ويعتمد نوع الخطيئة على الهدف المنشود وليس على رفض الله الموجود في كل خطيئة. ويعتقد علماء لاهوت آخرون، مثل سكوت، أن الخطايا تتميز بصورة معينة بقدر ما تعارض الفضائل المختلفة. وهكذا فإن خطيئة التمرد تختلف بصورة خاصة عن خطيئة الإفراط. ومع هذا يميز علماء لاهوت آخرون، مثل جبرائيل فاسكويز، الخطايا على أساس مخالفتها للشرائع المختلفة. وهكذا فإن خطيئة ضد الوصية الرابعة من الوصايا العشر تختلف قطعاً عن الخطيئة ضد السادسة. إن هذه المعايير لتمييز الخطايا لا تبدو قطعاً أنها تتعارض مع بعضها بعضاً. ويبدو معيار الإكويني أكثر أصالة بينما تظهر المعايير الأخرى تقريبية.
ب- الناحية العددية: تتحكم مبادئ أخرى بالتمييز العددي للخطايا. وتتضاعف الخطايا عددياً كلما تميزت نوعياً. فالزاني يرتكب خطيئتين متميزتين قطعيتين واثنتين من حيث العدد عن طريق فعل زنا واحد لأنه يناقض العفة والعدالة كلتيهما. تتضاعف الخطايا عددياً كلما تكرر فعل الخاطئ. ففي كل مرة يسطو لص على مصرف فإنه يرتكب خطيئة متميزة عددياً. ولا يوافق المؤلفون على الإجابة عن السؤال حول ما إذا كانت الخطايا تتضاعف عددياً إذا وجه فعل واحد نحو أهداف متعددة. ويبدو أنه إذا كان كل من هذه الأهداف واحدة من تلقاء نفسها، وإذا مثلاً تسببت جريمة واحدة في جرح عدة أشخاص، فمعظم المؤلفين يعتبرون هذا قضية تضاعف عددي. وحتى إذا كان هدف واحد خاضعاً لآخر، إذ يعتبر معظم المؤلفين العمل الذي تم بأجمعه عملاً واحداً خاطئاً. وهكذا فالترتيبات جميعها التي قام بها اللص الذي يخطط لسرقة مصرف تكون خطيئة واحدة مع السرقة الحقيقية.
3) الخطايا الداخلية:
الخطايا الداخلية هي تلك التي يرتكبها الإنسان في قلبه ولا تظهر في الخارج. وكان يسوع يتحدث عن الخطيئة الداخلية عندما علمنا أن كل من ينظر باشتهاء لامرأة قد ارتكب زنا معها في قلبه (مت 28:5). وقد اعتاد علماء اللاهوت في تمييزهم بين الخطايا الداخلية أن يتحدثوا عن:
أ- اللذة المتوقف عليها Delectatio morose:
إن اللذة المتوقف عليها، وهي معنية بالحاضر، ترضي رضى خاطئاً إذا ما فكرت وتخيلت الشر بدون الرغبة فيه حقيقة. فيعتبر مذنباً مثلاً ذلك الشخص الذي يفكر في إيذاء الآخرين.
ب- الابتهاج المحرم Gaudium peccaminosum:
ويعني الابتهاج المحرم الموافقة على فعل خاطئ ارتكبه الشخص نفسه أو غيره في الماضي. فمثلاً إذا قال الإنسان لنفسه “جرح فلان فلاناً في الماضي وأنا مسرور لأنه فعل ذلك”، يعتبر ذلك الشخص مذنباً في فعل الشر.
ج- الرغبة القبيحة Desiderium pravum: هي الرغبة والقصد لعمل شيء شرير في المستقبل. فكما يلاحظ فالأولى معنية بالحاضر، والثانية بالماضي والثالثة بالمستقبل. وتجب الملاحظة أن الفعل الإرادي فقط يمكن أن يخطئ وليس فعل العقل. وبعبارة أخرى، التفكير في شيء شرير ليس خاطئاً بحد ذاته فالتفكير في الشر قد يكون ضرورياً في بعض الحالات عندما يفحص الإنسان ضميره مثلاً. غير أن التفكير في الشر ربما كان مناسبة للخطيئة عندما، على سبيل المثال، يستغرق الإنسان في أفكار حية. وتدخل الخطيئة عندما يوافق الشخص بالحقيقة على الشر المعتزم. وقد تحدّث يسوع عن خبث الشهوة الشريرة (مت 28:5). فالمجرم الذي يقصد سرقة أحد المصارف ولكنه يتراجع عند مشاهدته أحد الحراس يكون مذنباً بالسرقة في عيني الله حتى ولو أنه لم يمض في الجريمة. وفي الحالات الثلاث جميعها لا يختلف الفكر ولا العمل في الأساس فيما يتعلق بالخبث. إن غياب العمل لا يزيل خطيئة الإرادة الفاسدة. وقد يشعر الفرد بالرضى نتيجة التأثير الجيد الذي يلحق بشيء شرير. وهكذا فالزوجة قد تشعر بالرضى تجاه الحقيقة كونها غير معرضة للإيذاء الجسمي من قبل زوج مدمن على المسكرات. 4) الخطيئة المميتة والعرضية: الفارق بين الخطيئة المميتة والعرضية له علاقة “بالنوع اللاهوتي” للخطيئة. ونعالج هنا ثقل الخطايا. ولا تشير فكرة كون الخطايا غير متساوية في ثقلها إلى الفارق بين الخطيئة المميتة والعرضية وحسب بل أيضاً إلى الفارق في الثقل بين الخطايا المميتة. أ- الخطيئة العرضية: لا تدمر الخطيئة العرضية حياة النعمة، ولكنها تستوجب العقاب المؤقت. وعندما يرتكب الإنسان خطيئة عرضية فهو لا يبتعد عن الله، إذ يبقى الله هدفه، إلا أنه ينعطف في الطريق عن الله.
ب- الخطيئة المميتة:
أما الخطيئة المميتة فإنه تدمر حياة النعمة، وهي موت روحي، وتعاقب بالهلاك الأبدي في الجحيم. وعندما يرتكب الإنسان خطيئة مميتة فإنه يبتعد عن الله، ولا يعود الله هدف حياته. وهناك تعارض أساسي بين الفعل الخاطئ المميت ومحبة الله. الخطيئة المميتة هي الخطيئة بالمعنى الكامل للكلمة. وما الخطيئة العرضية سوى خطيئة بالمعنى التشابهي (analogical sense)
قبل الوقوع في خطيئة مميتة، يجب أن تتحقق ثلاثة شروط: 1- يجب أن تكون المادة ثقيلة. ويمكن التعرّف على ثقل المادة من الكتاب المقدس، وتعليم الكنيسة والإدراك السليم. فعلى سبيل المثال، تؤكد لنا هذه المصادر الثلاثة أن قتل الإنسان مادة ثقيلة جداً. 2- يجب أن يكون هناك تفكير كاف من جانب العقل، أي أن القائم على العمل يجب أن يعي بوضوح العمل الشرير الخطير الذي يفكر في القيام به.
3- يجب أن تكون هناك موافقة تامة للإرادة للعمل الشرير في مادة ثقيلة. وإذا كان الأمر المقصود ليس خاطئاً إلى درجة ثقيلة إذن فالعمل الخاطئ لا يمكنه أن يكون إلا عرضياً. وإذا كان التفكير والموافقة غير كاملين، حتى ولو كان المر المقصود ثقيلاً، تكون الخطيئة عرضية بحكم الضرورة. إن الخطر الرئيسي للخطيئة العرضية، على كل حال، هو في انه يضعف حماسنا في خدمة الله، ويميل بنا إلى الخطيئة المميتة.
5) أسباب الخطيئة:
الله ليس سبب الخطيئة بل الضعف البشري مسؤول عن الفعل الخاطئ: أ- العقل والإرادة: يستذكر الإكويني في نقاشه حول أسباب الخطيئة أن الإرادة هي الموهبة الرئيسية في أداء أي عمل بشري، حسن أو رديء، وأن العقل يوجه الإرادة، وأن العواطف تؤثر في الأفعال البشرية ولكنها لا تسيطر عليها. إن إرادة الخاطئ وحدها هي سبب الخطيئة، إلا أن الإرادة معرضة للإغراء من الخارج والداخل.
ب- القوة الشيطانية: يُفهمنا الكتاب المقدس كيف أن عمل الفداء هو انتصار على قوة الشيطان. وبالفعل فإن الشيطان يحاول توجيه الناس نحو الخطيئة. وإن كان باستطاعته إغراء المخلوقات البشرية، إلا أنه لا يستطيع إرغام أي شخص على ارتكاب الخطيئة. ولا يستطيع الاعتداء على الحرية الإنسانية. وعلينا أن نقرّ أيضاً بأن التجارب والإغراءات ليست جميعها من الشيطان.
ج- العالم: “العالم”، هو أيضاً، ليس سبباً للخطيئة لأنه لا يستطيع إجبار الإرادة بأن تتصرف خطأ. إلا أن العالم يستطيع إغراءنا بارتكاب الخطيئة، ويستطيع أن يكون مناسبة للخطيئة. ونفكر هنا في أولئك الأشخاص، والأماكن والأشياء التي تستطيع أن تقودنا إلى الخطيئة. ونحن ملتزمون بتجنب المناسبات القريبة من الخطيئة، وعندئذ يجب أن تقوم بخطوات تقلل من الخطر. إن المناسبات الأكثر بعداً للخطيئة لا يمكن أبداً تجنبها، فهي جزء من الحياة. د- الشهوة: إن الشيطان كالعالم يجربنا من الخارج، غير أن الشهوة تجربنا من الداخل. وتعني الشهوة ميلاً إلى الشر في داخل الشخص البشري. وهي “شهوة الجسد وشهوة العين وكبرياء الغنى” (1يو 16:2). والشهوة تتعلق بالرغبات الجسدية، والطموحات الدنيوية، والأغراض الأنانية، وروح التملك، وجاذبية القيم المادية، وحب الظهور الدنيوي، وبإمكان هذه الأشياء جميعها أن تشتعل في داخل القلب البشري وتعرض الإنسان لإغراء ارتكاب الخطيئة. الخاتمة: أحياناً ييأس الناس من مقاومة بعض التجارب لارتكاب الخطيئة. ولكنهم يجب ان يتذكروا أن الله لا يسمح للإنسان أن يتعرض للتجربة إلى درجة تتخطى قدرته على المقاومة. إن الطريقة الممتازة لتجنب الخطيئة هي تجنب أولئك الأشخاص، والأماكن والأشياء التي تقودنا نحو الخطيئة. وللجوء المنتظم لسر التوبة مساعدة عظيمة. ولا يقصد من وراء التجارب تدميرنا، إذ أنها في صالحنا. والمقصود بها تقوية أعصاب وعضلات عقولنا وقلوبنا ونفوسنا. فهي المحك الذي يمكننا من الانطلاق للمعركة ونحن في حالة أقوى. إن الله يدعو الخطاة إلى الارتداد. والارتداد معناه الابتعاد عن الخطيئة والرجوع إلى الله. وتعني الانسجام الكلي لإرادة الأب السماوي، والتوقف عن فعل الخطيئة، والثورة على وجهة نظر الإنسان ورغباته كي يصبح الإنسان مخلوقاً جديداً. وعلى كل حال فإن موضوع الارتداد سيعالج بإسهاب أكبر مع سر التوبة.