stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

عقائدية

المظهر الفلسفيّ والطبيّ للموت- الأب/ شنودة شفيق

827views

José Maria de Medeiros - A Morte de Sócrates - Museu D. João VIالمظهر الفلسفيّ والطبيّ للموت- الأب/ شنودة شفيق

ليس الهدف تناول موضوع الموت في الفكر الفلسفي، إنما نريد أن نقدّم وباختصار رأي أحد الفلاسفة المسيحيين الكاثوليك في الموت والذي من خلاله يمكنا أن نجيب على هذا التساؤل: هل الموت هو هدم أم اكتمال؟

يجب أن نعترف بأنه ليست لدينا أي خبرة شخصية عن الموت. والذين اقتربوا من الموت لم يحصلوا على الخبرة النهائية التي تمت في وقت ما لا يمكن الرجوع منها والعودة لتحديدها. لكن نظراً لبطء انسحاب الحياة، لا يمكن أن تكون خبرة الموت موضوع لحظة، ولا يمكن لإمكانياتنا الزمنية أن تقيسها. انطلاقاً من هذا هل لنا الحق في الكلام عن حقيقة لا تزال بالنسبة لنا مجهولة؟

يمكنا القول بأننا نقتصر على التفكير فيما يبدو من الموت في حياتنا بناء على الرباط الوثيق الذي يجمع بين الموت والحياة في الشخص البشري. فالإنسان مدعو إلى حياة السمو دائماً وذلك بفضل علاقته بالآخرين وهكذا تنمو الحياة، لكنها تنمو نحو الموت. كيف يمكنا أن نحدد هذا النمو؟ هذا النمو يكمن في الانفتاح الكامل والكلي لكل شخص، وهذه هي طبيعة الإنسان ككائن اجتماعي في مختلف مراحل حياته، ففي مرحلة الطفولة قابل للأخذ، أما في سنة الرجولة قابل للعطاء هذا العطاء يكمن في هبة الذات والذي هو دليل على نمو مستمر، هذا النمو يسعى إلى ما لا نهاية حتى وإن كان لا يصل إليها تماماً.

1- الموت والحب

انطلاقاً من اليقين إنه في أسمى علامات الحب قد تكمن بعض الأنانية وأثر من الكبرياء، فهل توجد لحظة هي قمة اكتمال الوجود ونهايته؟ هنا نتوقف لنعرض وجهة نظر الفيلسوف المسيحي الكاثوليكي ألا وهو جبرائيل مارسيل ، يؤكّد إن حقيقة وجودنا لا تقوم إلا في الحب. إلا إنه نظراً للأنانية التي تسود وجودنا، لا يمكنا أن نحقق ونعيش الحب في صورته الكاملة وجوهره النقي، لذلك لحظة الموت هي الإمكانية الأولى للاكتمال الكلي المقدّم للحب، ففي هذه اللحظة يصبح كل كياننا في استسلام كلي، وهذا الاستسلام الكياني الذي يتحقق في الموت فقط هو الذي يفسح لنا المجال لتحقيق اكتمال هبة الذات التي هي الحب. انطلاقاً من هذا الموت لدى جبرائيل مارسيل، لا يعني مجرد عملية حسابية أو إحصائية نسقط فيها هذا الاسم أو ذاك من عداد الأحياء، ويستند مارسيل في هذا على العلاقة القائمة بين “الأنا-أنت”، ويوضح إن الموت لا يكون حادثاً أليماً، إلا حينما يكون بصدد موت ال”أنت” (موت الحبيب)، ماذا يعني هذا؟

يعني إن الموت لا يقلقنا حتى وإن كان يشير إلى الفناء، إنما حينما يكون بصدد غياب الشخص الذي نحبه غياباً مطلقاً، هنا يصبح موته تحدياً لنا، وتحطيماً للوحدة القائمة بيننا. لكن من شأن “الوفاء” أن يتحدى كل غياب، حيث يشعرنا بأن “المحبوب” لا يمكن أن يموت، وأن الحب نفسه أقوى من الموت. يؤكد جبرائيل مارسيل من خلال خبرة الألم الشخصية التي اختبرها بسب فقدانه لأمه وزوجته إن هناك صلة روحيّة بين الأحياء والأموات، ويستند في ذلك على الصلة الموجودة بيننا وبين الأشخاص الغائبين، فهم ليسوا “بموضوعات” أو “أفكار” لكنهم أشخاص يظلوا مرتبطين بوجودنا الشخصي، وتظل هناك علاقة قائمة تجمع بيننا وبينهم أساسها المحبة التي تربطنا وإياهم، حتى وإن كان من الصعب تحديد نوع هذه الصلة التي تربطنا بهم، إلا إنه أحياناً يبدو لنا إن الميت المحبوب كأنه حاضر أمامنا يدور بيننا حوار كالذي يدور بين “الأنا- أنت”. 

2- الموت والإيمان

حب الحياة والإقبال عليها في رأي جبرائيل مارسيل هو نوع من الاختيار الحر، أكثر من ذلك هو فعل من أفعال “الإيمان”. وهنا الإيمان لا يعني نوع من القبول العقلي لبعض الحقائق الإيمانية أو القضايا اليقينية، بل هو عبارة عن العهد القائم على الثقة والوفاء. ولهذا السبب يفرّق مارسيل بين “الإيمان بـ”، “والثقة في”. بالتالي الإيمان الحقيقي ليس مجرد اعتقاد بكذا أو كذا من الحقائق، بل هو ثقة في تلك “الأنت” التي هي مصدر ثقة. فحينما تؤمن بشخص آخر، فإنك تضع ثقتك فيه وكأنك تقول له: “إنني واثق إنك لن تخيب ظني فيك، بل سوف تستجيب لي دائماً، وسوف تحقق رجائي فيك”.

هكذا الحال بالنسبة للإنسان المؤمن بالله، فإن إيمانه بالله هو الثقة في تلك “الأنت” المطلقة التي أقام بينه وبينها أواصر حياة المحبة والوفاء. والإنسان حر في أن يقطع على نفسه عهداً أمام الله بحيث يحيا معه في حب ووفاء، ولكنه حر أيضاً في أن يخون العهد وأن يقطع كل أواصر الوفاء بينه وبين الله. فالإيمان والحرية هما المظهرين اللذين يكشفان لنا عن حاجة الإنسان إلى المتسامي أعني الله، الذي يدعونا لمشاركته هذا السمو، الذي لا يتحقق إلا من خلال المشاركة ف حياة الموجود المتعالي “الله”.

بهذا يشير جبريل مارسيل إلى إن الحياة البشرية تتخطى الزمن في تخطيها كل ما هو متناهي من أجل الوصول إلى المتسامي الأبدي. ويتحقق ذلك في الاتحاد الكامل والتام بين الأنا- الأنت المطلق وهذا لا يمكن تحقيقه بصورة كاملة هنا والآن، أعني ونحن في حدود الجسد وفي حيز الزمان والمكان. هذا لا يعني إن اتحادنا وارتباطنا بالأنا المطلق هنا والآن لا يعني شيء، إنما هو نقطة انطلاق لبداية تكتمل فيما بعد، أي بعد أن يتحرر من كل ما هو مادي وزمني، أي فيما بعد الموت وهذا هو إيماننا المسيحي.

3- الموت والرجاء

انطلاقاً من صميم تجربته الروحية العميقة، وما عاناه في باطن خبرته الشخصية يؤكد مارسيل إن النفس المؤمنة تثق عن الرجاء هو نسيج الحياة، فهو الجو الروحي الذي فيه تتنفس، والفرح هو الكلمة الأخيرة في دراما الوجود الإنساني. فالرجاء هو مصدر حياة النفس البشرية، أما إذا انقطع هذا الرجاء فإنها تذبل وتجف. وهنا يدخل الإنسان في حالة اليأس والذي يصل به للشعور بأن الزمان مغلق، وإن كل شيء يجعله أسيراً ويعوق انطلاقه. ولكي يتحر من هذا الشعور عليه أن يعيش الرجاء الحقيقي والذي به ينطلق الإنسان نحو المطلق، حتى وإن كان هذا يصبح دائماً سراً إلا إن الرجاء وحده هو الكفيل بالانطلاق نحو هذا السر الذي ينادي به جبرائيل مارسيل ألا وهو “الخلود”.  

على ضوء ما ذكرنا يتضح لنا إن الموت حقيقة وضعية وهنا يمكن أن نتساءل هل هناك تناقض بين فكرة الموت كحقيقة وضعية وفكرة إنه عقاب وقصاص كما يذكر الكتاب المقدس؟ باختصار شديد يمكنا أن نجيب بأن الموت هو قصاص من حيث إن الإنسان يعارض اله بخطيئته، لكنه يفقد صفة العقاب حينما يتجرد الإنسان من كل ما يملك فيقوم بعمل الاستسلام السامي وهبة الذات كلية منفتحاً على كمال الكيان الذي يلتقي بملء المحبة الإلهية.

بهذا يمكننا أن نفهم بعمق حقيقة الموت في فكر جبرائيل مارسيل فحينما يسأل الفيلسوف، هل علينا التفكير بالموت كنهاية لكل شيء (هدم)؟ ألا يكون نوعاً من التحوّل، به تبدأ حياة جديدة؟ بهذا يذهب جبرائيل مارسيل إلى أبعد بتأكيده أن هذا التحوّل لا يتجاوب فقط مع توقان ملازم لكل إنسان، بل يعبر حقيقة عن حياة أخرى بعد الموت، حياة أبدية “الحياة لا تؤخذ منّا بل تتحول”. ويعبر عن ذلك في رؤية مسيحية. بهذا لا يضعنا الفيلسوف المسيحي في مواجهة سر الوجود وسر الموت وسر الحياة الخالدة فقط، إنما يضع معضلة وجود الله في نور أوضح.

هذا التصوّر الروحاني للموت يضعنا في اتصال متين بالإيمان بوجود الله، ويؤكد لنا أن الموت يبقى حقيقة مؤلمة، لأنه يبقى انفصالاً يترافق غالباً وآلام مبرحة جسدية ونفسية. ولكن هذه الآلام وهذا الخوف من الموت تلطفها وتخففها مستقبلية الحياة الأبدية. بهذا المعنى يبدو الموت بداية، ولادة جديدة، وهكذا هو ينبوع أمل ورجاء.

 

المظهر الطبي للموت

في إطار حديثنا عن موضوع الموت، رأينا أنه من المهم أن نشير إلى هذا الجانب واعتمدنا في ذلك على ما أشار إليه الأب نادر ميشيل  لنستخدمه كمرجع أساسي في حديثنا عن المظهر الطبي للموت .

1- التطور التاريخي لتحديد الموت:

منذ بداية البشريّة اتفقت أغلب المجتمعات في العالم على تعريف الموت بأنه التوقّف التام للدورة الدمويّة والجهاز التنفسي. حتى الستينات تعامل المشرّع في قضائه طبقاً لهذا المعيار حيث أثبتت الأبحاث العلمية في ذلك الوقت أن توقّف الدورة الدمويّة والجهاز التنفسي معايير غير كافية للتأكّد من حدوث الوفاة بصورة فعليّة. فقد استطاع العلم الحفاظ على وظائف الجسد بالرغم من توقّف الدورة الدمويّة. وعمل العلم دءوباً على تقنين الأجهزة والمعدات للتأكد دون مجال للشك من توقف المخ عن العمل واستحالة رجوعه إلى الحياة مرة ثانية. بهذا أصبح التوقف التام لوظائف المخ هو المعيار الوحيد الذي على أساسه يستطيع الأطباء إصدار شهادة الوفاة.

متى تحدث الوفاة؟ سؤال شغل مفكري وعلماء الطب منذ القدم، فالإخفاق في تحديد حدوث الوفاة عواقبه وخيمة مثل أن يستيقظ الإنسان بعد دفنه ليجد نفسه في تابوت وأنه دفن حياً. لذا اتفق الأطباء على تأخير إجراءات دفن أو تشريح جثمان. فحتى عام 1948 لم يتم إصدار شهادات الوفاة في فرنسا إلا بعد مرور أربع وعشرين ساعة من حدوث الوفاة. إلا أنه وبعد عدة أبحاث توصّل الطب إلى وسيلة أخرى تساعد على تحديد حدوث الموت في مدة قصيرة وذلك عن طريق حقن مادة الفلورايسين في العين فتحول إلى لون أخضر في حالة التوقف التام للدورة الدموية أي أن الوفاة حدثت دون شك. فجميع هذه الجهود المبذولة تؤكّد الحرص الشديد على إثبات أن حالة الوفاة حدثت دون ترك أي مجال للشك ومن ثم الحفاظ على الحياة. لكن سرعان ما فرض سؤال آخر نفسه وهو: ماذا لو أن هذه الفحوصات تُجرى لجسد فارق الحياة بالفعل؟

في عام 1959 خلال المؤتمر الثاني والعشرين للأطباء المتخصصين في أمراض الجهاز العصبي تقدّم الطبيبان الفرنسيين ب. مواريه، م. جولون بدراسة عن ثلاثة وعشرين حالة تؤكّد أن أي علاج يجري للحفاظ على انتظام الدورة الدموية ووظائف الجهاز التنفسي لن يعيد الإنسان إلى الحياة في حالة توقف وظائف المخ لديه. ولقد أثبتت نتائج التشريح أن الوظائف المخية انعدمت تماماً، وعلى الرغم من هذه الدراسة امتنع الطبيبان عن اعتبار توقف وظائف المخ معيار به يمكن تأكيد حالة الوفاة، لكنهما عرفا هذه الحالة بـ “حالة ما بعد الغيبوبة” وامتنعا عن إقرارها قانونياً كمعيار لتعريف الموت.

تعدّدت إجراءات العناية المركزية لحالات شبيهة حيث استطاع الأطباء في العديد من الدول إبقاءها لأيام معدودة على الرغم من توقف وظائف المخ. كما تعدّدت المسميات لهذه الحالات واختلفت من دولة لأخرى. فهناك من اعتبرها “موت للدماغ” أو “غيبوبة نهائية” لكن لكل دولة قائمة تعرّف فيها الموت عاملة بها في نظمها التشريعية. وفي عام 1968، أصدرت فرنسا قائمة تحدّد فيها المعايير التي يجب الاستناد عليها “لتأكيد عدم إمكانية استرجاع وظائف المخ اللازمة للحياة”. وفي نفس العام أقرّت الولايات المتحدة القائمة ذاتها معتبرة “حالة الموت الدماغي” الموت. أمّا في الدانمارك استمر الجدل حول هذا المعيار لتحديد حدوث الوفاة حتى عام 190. وأدخلت إنجلترا تعديلاً على هذا التعريف فحالة الوفاة تحدث “بموت الجزع الدماغي”، وهذا لا يمثّل فارق لتوقّف جميع وظائف الدماغ إذ أن الجزع الدماغي هو الأكثر صلابة من الناحية الطبية، ولكن هذا يمثّل فارق على المستوى الفكري كما سيتضح فيما بعد.

أ- أهمية الدقة في اختيار التعريف اللغوي 

تعدّدت التعريفات التي تعبّر عن حالة فقدان تام لوظائف المخ، كما إنها في حد ذاتها مثيرة للبلبلة- فلفظ “حالة ما بعد الغيبوبة” لم يفرض الموت بل الغيبوبة- خاصة لأن هناك حالات من الغيبوبة أفاق المصابون بها بعد مرور شهور عديدة. ولكن طبياً كان هذا اللفظ يصف حالة تعدّدت حالة الغيبوبة المعروفة ولذلك كان من الضروري اختيار تعريف آخر أكثر دقة، فأصبح “الموت الدماغي” هو التعريف الجديد المتفق عليه والمعمول به لتحديد حدوث الموت. لكن هذا التعريف يمثّل مشكلة أخرى: فموت المخ هو موت عضو من أعضاء الجسم ولكن هناك الإنسان نفسه فموته حقيقة أخرى. 

إلا أنه هناك بعض الدول التي تحرّم استخدام بعض الأجهزة الطبية مثل جهاز رسم المخ، والبلاد التي تسمح باستخدامه دءوبة لاستبداله بأجهزة أكثر سرعة وأكثر دقة ولكنها تخشى إثارة الرأي العام الذي يعتبر جهاز رسم المخ رمزاً للموت. أصبح من الضروري إذن الرجوع إلى استخدام اللفظ القديم “الموت” للتعبير عن نهاية كائن بيولوجياً سواء هذا الكائن إنسان أو حيوان، واعتراف عدد كبير من الدول بأن الموت يعني توقف جميع وظائف المخ، كما وجب الأخذ في الاعتبار توقف وظائف القلب وظائف الجهاز التنفسي كمعايير للموت. فجميع الحالات أثبتت أن وظائف المخ تموت مباشرة عقب توقف وظائف القلب والجهاز التنفسي إذا لم تتوفر العناية الطبية المركزة.

لهذا يجب مراعاة جميع هذه المعايير لتحديد حدوث الوفاة، وبينما أصبح من السهل تحديد الوقت لتوقف القلب والجهاز التنفسي عن أداء وظائفهما بسبب غياب العناية المركزة، مازال من الصعب تحديد متى توقفت الوظائف المخية في الحالات التي خضعت للعلاج المركز. وربما يوضّح ذلك اختلاف المعايير من دولة لأخرى واحتمال تعديلها مع الاستكشافات الحديثة. 

وعلى عكس ما يعتقده الكثيرون فإن العلامات التي تدل على وظائف المخ المدمرة هي علامات إكلينيكية، أي أنها لا تحتاج إلى أجهزة لتكشف عن أن المخ مدمر بل يستطيع الطبيب إجراء عدة فحوصات للاستنتاج فيقوم أولاً بفحص النبض، وفحص الشرايين المتصلة مباشرة بالمخ، ثم يفحص العين للتأكد من أن المريض لم يأخذ مواد مخدرة. 

وبجانب هذه الفحوصات الإكلينيكية تجري بعض الدول فحوصات “بارا-إكلينيكية” للتأكّد من نتائج الفحص الإكلينيكي، وذلك باستخدام أجهزة رسم المخ أو الأشعة الملونة لفحص الشرايين. ولقد أثارت بعض هذه الأجهزة الجدل من حولها لخطورتها على الإنسان الذي مازال على قيد الحياة بينما يعتقد الطبيب أنه فارق الحياة. ولكن هذه المعايير ربما تساهم في تقديم علامات توقف الوظائف في جسم الإنسان إلا أنها لا تعرّف معنى كلمة “الموت”. وما هي الأسباب التي جعلت الجميع يتفق على أن “الموت الدماغي” هو التعريف المعمول به على الرغم من وجود اعتراضات دينية وفكرية.

ب- متطلبات دينية وأدبية

من حق كل فرد يعيش في دولة تمارس فيها الديموقراطية أن يطال بإجراء جميع الفحوصات اللازمة له أو لأقرب الأقربين له للتأكّد من حلول الموت بصورة قاطعة. وهذا يعني التدخّل الطبي. ومن حق الطبيب أيضاً أن يرفض إجراء الفحوصات التي تتعارض مع مبادئه وعقيدته. 

والجدير بالذكر هنا أن كثيراً ما توفر حالات الموت المخي مصدراً لأعضاء عضوية سليمة وصالحة للاستزراع لحالات مرضية عديدة. ويجب هنا ضمان حق الأقرباء في رفض استئصال أعضاء ذويهم المتوفي مباشرة وقبل إجراء الفحوصات التي ذكرناها من قبل. والضمان عدم الإخلال بهذه المعايير لا يجوز للطبيب الذي يصدر شهادة الوفاة أن ينتمي إلى فريق أطباء استئصال الأعضاء أو إلى فريق أطباء زراعة الأعضاء.

ج- الجدال الفكري: إثبات أن موت الإنسان يتم حين يموت المخ

أقرّت العديد من الدول مفهوم الموت على أنه وقع بسبب تدمر جميع وظائف المخ، ومع أن العمل به لم يتم بنفس السرعة في جميع الدول إلا إنه التعريف الذي يتفق عليه بشكل عام. ونادرة هي المدارس الفكرية والجهات التشريعية التي ترفضه. وعلى الرغم من ذلك هنا تناقض بين المدارس الفكرية في الاتفاق على تحليل واحد واختلاف السبل التشريعية في تطبيقها. فبالنسبة للبعض الإنسان عبارة عن وحدة مكوّنة من أعضاء ذات وظائف عديدة متناسقة العمل فيما بينها حتى تمكنه على الحياة. 

أما المخ فهو أيضاً عضو من هذه الأعضاء إلا أنه له دور مركزي في جسم الإنسان، إذا تدمّر اختلّت جميع الوظائف الأخرى في الجسم مثل التنفس، ضخ الدم من وإلى الشرايين، وحتى إذا استطاع الطب استبدال بعض هذه الأعضاء بغيرها اصطناعياً أو استعادة بعض وظائفها بالمستحضرات الكيماوية إلا أن التناسق بين الأعضاء وبعضها سيبقى مختلاً وبليداً ولكن لا يمكن اعتباره حياً.

ويقول فريق آخر إن إنسانية الكائن البشري تنبع من نشاطه النفسي والمعنوي في المقام الأول. فإذا تدمر المخ تدمرت جميع هذه الأنشطة عه حتى إذا كانت أعضاء الجسم سليمة. فالموت المخي معناه فقدان الإنسان لهويته.

ويعتقد فريق ثالث إن الإنسان وحده الجسد مع الروح قادرة على القيام بمهامها النفسية، فإذا تدمر الجزع المخي انقطعت العلاقة بين الجسد والروح ويفقد الإنسان بذلك معالم إنسانيته. هذا التفسير لا يقتنع به سوى الذين استندوا إلى معيار تدمر الجزع المخي، كمعيار للموت غافلين عن توقف النشاط أيضاً في الفص الأعلى للمخ (كما هو متبع في إنجلترا). وهناك فريق آخر يرفض الفصل بين الجيد والنفس، ومعيار الموت بالنسبة لهذا الفريق يتمثّل في فقدان جميع الوظائف تناسقها فيما بينها.

هذه المفارقات تعوق أي تطور علمي يساهم في تفهّم معايير جديدة للموت. أخيراً في عام 1985 أعلنت الأكاديمية البابويّة للعلوم: إن الشخص يعتبر ميتاً عندما يفقد الجسم جميع إمكانياته العضوية والتنفسية بصورة نهائية ويحدث الموت في حالة:

• توقف ضربات القلب والتنفس معاً.

• الفحص والتأكّد من أن وظائف المخ تدمرت دون رجعة.

فالموت المخي هو المعيار لتأكيد حدوث الوفاة . وأخيراً نذكر أن فنلندا في 1971 هي البلد الأول الذي أقرّ الموت المخي معياراً لحدوث الوفاة.

عن مجلة صديق الكاهن العدد الرابع2005