ثلاثة أمثال عن المأدبة(لو 1:14-24)- الأب د./ كميل وليم
يبدأ إنجيل القديس لوقا بعبارة “دخل يسوع يوم السبت بيت أحد الفريسيين ليتناول الطعام (1:14)، مقطع يتكوّن من معجزة شفاء وثلاثة أمثال وُضعت في إطار مأدبة (لو1:14-24). يتكوّن هذا المقطع، مثل باقي هذه الفصول من إنجيل القديس لوقا، من مواد مختلفة: أجزاء تنتمي إلى أحداث مختلفة جُمعت معاً كما لو كانت حدثاً واحداً.
ينفرد إنجيل القديس لوقا برواية قبول يسوع دعوات إلى الطعام وجهها إليه فريسيون (را 36:7)؛ لأنه في الواقع لم يكن كل الفريسيين معارضين ليسوع وتعاليمه، كما قد نعتقد أحياناً. ولكن نقول إن لقاءاته معهم اتسمت في الغالب بالتوتر. ويحدث هذا أيضاً بمناسبة شفاء المصاب بالاستسقاء (را1:14-6). وجد يسوع، عندما دخل بيت أحد الفريسيين، مريضاً أمامه وكان يوم سبت. وشفاء المريض يوم السبت يُعَد كسراً لراحة السبت. فاجأ يسوع معلمي الفريسيين، بمجرد دخوله، بهذا السؤال: “أيحل الشفاء في السبت أم لا؟” (لو3:14). كان الصمت المطلق هو إجابة السؤال “فلم يجيبوا بشيء” (4:14أ). لم ينتظر يسوع ردهم ولا اهتم بصمتهم بل بادر إلى العمل “أخذ بيده وأبرأه وصرفه” (4:14ب). يقطع يسوع الصمت بسؤال ثان، أراد أن يحرجهم به: “من منكم يقع ابنه أو ثوره في بئر فلا يخرجه منه لوقته يوم السبت؟” (لو5:14). فأعاد السؤال عاماً: هل يجوز أم لا، بل شخصياً: من منكم. إنها كلمة قوية موجهة ضد الرياء وضد صمتهم المطبق. ما الأهم: الإنسان أم الحمار؟ لا يستطيع أحد أن يتهرب من سؤال مثل هذا. فهو إما أن يستسلم ويقبل الرد البديهي، إما أن ينغلق في صمت يزداد عدوانية بقدر ما يتأكد صاحبه من أن غريمه على حق: “فلم يجدوا جواباً عن ذلك” (لو6:14).
هذا هو الإطار العام الذي يضع فيه إنجيل القديس لوقا أمثال المأدبة الثلاثة (المدعوون الذين يتنافسون على الأماكن الأولى واختيار المدعوين وأخيراً المأدبة) ويدعونا الإنجيل أن نضع هذا الأمر نصب أعيننا ونحن نقرأ هذه الأمثال. سبق وقلنا إن سياقه يرجع إلى إنجيل القديس لوقا. لا يعني هذا أن السياق هو مجرد إطار بسيط أو خاوية لا أهمية لها قياساً بمضمون الأمثال. الإطار هو مشهد عُرس، وخلفية الأمثال الثلاثة هي المأدبة. ونقول لمزيد من الدقة إن الإطار يدعو إلى تأمل المشهد تأملاً دقيقاً. كان يسوع معلماً غير عادي، لمّاحاً ومبادراً ولا يتوقع أحد ما يمكن أن يقوله أو يفعله. لذلك فإن دعوته تعني المخاطرة وتعريض الذات والأفكار الشخصية للملاحظة والسب.. هذا ما ستتناوله الأمثال الثلاثة.
قُم إلى فوق
يقطع يسوع مرة أخرى الصمت الذي لفّ المشاركين في المأدبة، ليروي مثلاً (لو7:14-11) إنه لا ينوي أن يعود مرة أخرى إلى موضوع السبت بل لكي يكشف تناقضاً دينياً آخر ويعريه أمام من يمارسونه.
لاحظ يسوع أن المدعوين يتصارعون للاستيلاء على الأماكن الأولى. كل منهم مقتنع أنه يستحق مكان الشرف. وبينما يراقب يسوع المشهد يبدو أنه تذكر مقطعاً من كتاب الأمثال: “لا تفتخر أمام الملك وفي مكان العظماء لا تقف. فإنه خير أن يُقال لك: “اصعد إلى هنا” من أن تحط أمام الأمير” (أم6:25-7). يطور يسوع هذه الحكمة ويجعل منها مثلاً.
بالطبع ما كان هدف يسوع الحديث عن قواعد الآداب العامة ويعلم مستمعيه التواضع، وبالأحرى أن يعلمهم حيلاً دقيقة يستطيعون بها أن يصعدوا إلى أعلى، وأن يحسّنوا أوضاعهم الاجتماعية. لأن هذا المثل مثل باقي أمثال يسوع كلها، يدور حول ملكوت الله.
وينتقد إنجيل القديس لوقا بشدة البحث عن الأماكن الأولى: “إياكم والكتبة، فإنهم يرغبون في المشي بالجبب، ويحبون تلقي التحيات في الساحات، فصدور المجالس في المجامع، والمقاعد الأولى في المآدب” (لو46:20). كما أن خاتمة مثلنا هذا “فمن رفع نفسه وضع ومن وضع نفسه رفع” (لو11:14) ترد أيضاً في مثل الفريسي والعشار: “فكل من رفع نفسه وضع ومن وضع نفسه رفع” (14:1). كما أن يسوع يعطي تعليقاً على هذا الأمر: “أنتم تزكون أنفسكم في نظر الناس، لكن الله عالم بما في قلوبكم، لأن الرفيع عند الناس رجس عند الله” (لو15:16).
يستطيع من يقرأ المثل، على ضوء هذه النصوص وهذه الخلفية، أن يعرف أنه لا يوجّه ضد حب تظاهر سطحي مضحك، بل ضد ادعاء أساسي يفسد علاقة الإنسان مع الله وفي الآن ذاته علاقة الإنسان بالآخرين.
إنه الادعاء المضاد المألوف: اعتبار الذات أفضل من الآخرين وأكرم وأكثر استحقاقاً منهم. يؤدي هذا الإحساس إلى الصلف والتمايز. هل كان يسوع يقاوم، بهذه الطريقة، طموحات الترقي والتقدم التراتبي، التي سادت المجتمع الديني آنذاك؟
إذا كان هذا فقط هو هدف المثل، فإنه ينحصر في المجال البشري، مبيناً كيف يضع الإنسان ذاته أمام الله وأمام الآخرين: إنه تعليم هام على أي حال، إلا أنه لا يصل إلى الأساس والعمق. إنه ليس كذلك. يوجه يسوع انتقاده الشديد لحب تظاهر الذين يبحثون عن المقاعد الأولى. سبب هذا الانتقاد الشديد أن الله لا يفعل هذا، والإنسان هو صورة الله وعليه أن يتمثّل به. إحدى نقاط الإنجيل الثابتة هي أن الله يعلن ذاته كخادم لا كسيد، كأخير وليس كأول. في هذا المجال يجب البحث عن أساس المثل وعن معناه العميق الذي ينقله من مجرد حكمة آداب المعاملة إلى الخبر السار. إن العلاقة الجديدة التي يبدأها الله مع الإنسان هو الإطار الذي ينشأ فيه كل مثل، سواء أعلن الإنجيلي عن ذلك أم أضمره. هذه العلاقة هي أساس فهم أي مثل وتفسيره. لا يمكن أن نفهم أسرار أي مثل بكل التفاصيل الدقيقة إذا عزلناه عن مركز الإنجيل. يطل، في هذا المثل، قلب تعليم الإنجيل من كل جانب: في المشهد الانفتاحي الذي يروي قصة شفاء يسوع مريض يوم السبت، وكأنه يعلن بهذا أن حب الله للإنسان يتفوق على طاعة الإنسان لوصايا الله، وفي المشهد التالي، الذي يوصي فيه يسوع باستقبال الآخرين وليس الأولين لأن الله يريد ذلك.
إذا صنعت غداءً
بعد أن وجّه يسوع مثله التعليمي للمدعوين، يتوجه الآن بمثل لصاحب البيت (لو13:14-14) لاحظ يسوع، بالتأكيد، أن المدعوين هم من أقارب وأصدقاء وزملاء صاحب البيت الذي وجّه الدعوة: أناس ينتمون إلى طبقته الاجتماعية وإطاره الديني. لماذا يقتصر الإنسان على دعوة أصدقائه ومن هم في مستواه؟ يختلف منطق ملكوت الله تماماً عن هذا المنطق.
يجب علينا، عند قراءة هذا النص، أن نقرأه على ضوء خطبة يسوع وتعليمه في عظة الجبل. يشير يسوع إلى هذا التعليم: “إن أحسنتم إلى من يحسن إليكم، فأي فضل بكم؟ لأن الخاطئين أنفسهم يفعلون ذلك. وإن أقرضتم من ترجون أن تستوفوا منه، فأي فضل لكم؟ فهناك خاطئون يقرضون خاطئين ليستوفوا مثل قرضهم” (لو33:6-34).
إن نصيحة يسوع هذه هي منطقية بالنسبة لمن قبل صورة الله الجديدة التي يقدمها، ولكنها تعارض جذرياً العادات المترسخة سواء كانت عادات اجتماعية أو عادات دينية. نستنتج من هذا أن الموضوع ليس هو الكرم فحسب، بل منطق الله المختلف: تضاد لاهوتي تعليمي وليس مجرد تضاد سلوكي. يعدد إنجيل القديس لوقا سلسلة من الفئات المهمشة في المجتمع والمحكوم عليهم بعدم الطهارة من المنظور الديني: الفقراء والكسحان والعرجان والعميان (لو13:14). ومن المدهش أن هذه القائمة لا تضم الخطأة، الذين يكثر ذكرهم في إنجيل القديس لوقا. لقد اتكأ يسوع في بيت لاوي مع “جماعة كثيرة من العشارين وغيرهم” (لو29:5)، كما دخل بيت زكا (را لو5:19)، كانت هذه عادته، إذ إنهم اتهموه بأنه. “رجل أكول شريب للخمر صديق للعشارين والخطأة” (لو34:7).
تقودنا هذه الاعتبارات إلى القول إن النموذج هو دائماً يسوع ذاته، وقبل كل شيء حب الله الذي أظهره وشهد له. ليس هناك مهمشون أمام الله بل الجميع قريبون، المقياس الذي يتم على أساسه اختيار المدعوين للمأدبة هو حب الله وليس البر والاستحقاق القديمين.
يفكر كاتب الإنجيل، وهو يقدم هذا المشهد، في جماعته الكنسية وليس عالم يسوع فقط: يتمنى الإنجيلي أن تكون جماعته جماعة ترحب بالجميع ولا تستبعد أحداً.
العُرس
مازال يسوع في منزل الفريسي ومازال يتكلم وهو إلى المائدة. تنطلق تعاليم يسوع من الواقع: مثلٌ وجّهه للمدعوين عندما لاحظ كيف يتكالب الجميع على الأماكن الأولى، ومثل وجّهه لمضيفه عندما لاحظ أن المدعوين من الأهل والأصدقاء وحثّه على دعوة الفقراء. والآن يصل إلى مثل الوليمة. إنه يوجه كلامه للجميع: للمدعوين وللداعي. يعلق أحد المدعوين على تعليم يسوع بقوله: “طوبى لمن يتناول الطعام في ملكوت الله” (لو15:14).
إذا قارنَّا هذا المثل في إنجيل القديس لوقا بما يقابله في إنجيل القديس متى نلاحظ عدداً من الاختلافات. يقوم بالدعوة في إنجيل القديس لوقا “رجل غني”، أما في إنجيل القديس متى ملك (را مت 12:22أ). الدعوة في إنجيل القديس لوقا هي على عشاء فاخر (را لو 16:14) أما في إنجيل القديس متى فهي على عُرس ابن الملك (را 2:22ب). لذلك فإن الاهتمام لا يوجّه إلى الشخص أو إلى العُرس بما له من رموز عديدة، إنما يوجّه ببساطة إلى رفض المدعوين وحججهم.
لا يرسل الداعي عدداً كبيراً من العبيد (را مت 3:22و4) لاستعجال المدعوين إنما يرسل عبداً واحداً (را لو 17:14). يرفض جميع المدعوين، في إنجيل القديس لوقا، ولكنهم لا يبدون الضيق ولا يسيئون معاملة خادم الداعي، كما يحدث مع مرسلي الملك في إنجيل القديس متى. إنهم يعتذرون لارتباطهم بأعمال ومواعيد أخرى أهم ويعتقدون أن عذرهم مقبول.
يشتعل غضب الملك على المدعوين الذين رفضوا أن يلبوا الدعوة، معتبرين أن ما قدموه من أعذار مقبول. ويرسل جنوده ليحرقوا المدينة. أما في إنجيل القديس لوقا فإن الرجل الغني يرسل خادمه ليحضر الفقراء والكسحان والعميان والعرجان الذي أتى بهم الخادم، لذلك يرسله سيده مرة أخرى ليحضر من يجده لكي تمتلئ القاعة. عليه أن يرغم من يجده، مجبراً حتى أولئك الذين يرفضون.
بالرغم من الفوارق العديدة بين المثل في إنجيلي القديسين متى ولوقا إلا أن هدف الإنجيلين قريب، يكاد يكون واحداً. يقوم أحدهم بدعوة أبناء المدينة ويرفض المدعوون، فيغضب من دعاهم ويدعو آخرين بدلاً منهم: أغراب وفقراء. يبرر يسوع تصرفه وبالتالي خطة الله: أنتم لم تقبلوا ورفضتم وبالتالي ينتقل الخلاص إلى الخطأة والوثنيين. أين يقع هذا التضاد بين الذين يرفضون الدعوة وبين الذين يقبلونها، وهو النقطة المركزية لهذا المثل؟ هل هو في داخل إسرائيل (والآن طبعاً في داخل العالم المسيحي)؟ يبدو أن هناك تناقضاً بين الافتراضين. إنهما موقفان اصطدم بهما يسوع، وكاتب إنجيل القديس لوقا بعده: داخل إسرائيل هناك من ناحية الرؤساء وعلماء الناموس والفريسيون، ومن ناحية أخرى الشعب الجاهل والخطأة. يمتد الرفض: يرفض الشعب المختار الخلاص، بينما يقبله الوثنيون فيتحول الحكم على الرؤساء إلى حكم على إسرائيل.
يتأصل المثل بدون شك في واقع تاريخي، إلا إنه يظل في الوقت ذاته مفتوحاً: هذه هي طبيعة كل الأمثال الإنجيلية. ما حدث آنذاك قد يحدث الآن أيضا.
قلنا إن الاهتمام يجب أن يتركز على الرفض وأسبابه. يرى جميع المدعوين أن ما لديهم من التزامات أهم من قبول الدعوة التي وجهت إليهم. إنهم يرفضون بضمير مستريح وواثق. الاهتمام بالثروات والممتلكات، والعمل، والأسرة: هل هناك شيء أهم من هذا؟ إنها اهتمامات عادية، ملموسة لا بل ضرورية. يعتذر المدعوان الأول: “قد اشتريت حقلاً…” والثاني: “اشتريت خمسة فدادين…” وهما واثقان أن من دعاهم يتفهم عذرهما. أما الثالث: “قد تزوجت” فهو لا يعتذر واثقاً أن ارتباطه أهم من تلبية الدعوة.
حتى الاهتمامات الضرورية إذا أصبحت حقائق مطلقة فإنها تعوق الإنسان عن قبول الملكوت: هذا ما ينبه إليه بشدة هذا المثل: لا يجب أن يتقدم أي شيء على ملكوت الله.
لذلك يصرخ عن حق أحدهم “طوبى لمن يتناول الطعام في ملكوت الله” (لو15:14). ولكنه يخطئ لأنه عدّ بسهولة شديدة ذاته والمدعوين معه وجماعته الدينية مدعوين إلى الملكوت: إنه شيء مفروغ منه! إن الجلوس على مائدة الملكوت ليس شيئاً مفروغاً منه ومضموناً لأي إنسان، ولا حتى لأولئك الذين يعتقدون أنهم يؤدون واجبهم على أكمل وجه” فإني أقول لكم: لن يذوق عشائي أحد من أولئك المدعوين” (لو24:14). ربما يكون المدعوون المشغولون بالتزامات عديدة إنه يمكنهم اللحاق بالدعوة في فرصة أخرى. ولكن السيد يُجلس في الحال على مقعدهم آخرين. حتى وإن كانت الوليمة تتم في المستقبل (الوليمة المسيحانية) فإن الاختيار يتم فوراً.