جاؤوا مُسرعين إلى المذود / أشرف ناجح إبراهيم
جاؤوا مُسرعين إلى المذود / أشرف ناجح إبراهيم
جاؤوا مُسرعين إلى المذود
الأغنام تثغو، والجِمال تهدر، والأحصنة تصهل، وجميع أصناف الحيوانات تُصدر أصواتاً كلّ حسب نوعه.. ماذا حدث؟! مِن بعيد بدأت تظهر ثُلة مِن الرجال يبدو مِن ملامحهم أنهم جاؤا يبحثون عن شيء ما أو شخص ما! إنَّ منظرهم وملابسهم تدل على أنهم مِن طبقة فقيرة. فها الملابس الممزقة، والأحذية المتسخة المتقطّعة، وهاك الشعر الطويل المهلهل، كلّ هذا يكشف عن هويتهم. فهؤلاء ليسوا إلاّ رعاة غنم، جاؤا يحملون الأغنام، وبسببهم ارتفعت أصوات الحيوانات في المذود. وكان هناك طفل نائم، ليس على سرير مِن عاج ولا على أريكة مكسوة بالقماش الفاخر، بل في مذود مكسي ومُبطّن بقليل مِن التبن (لو 2/8-20)!! تأمل ملامح الطفل!!
عيناه تشعّ نوراً يخترق ظلمات النفس، شعره الأصفر يضيء كأنه ذهب لامع، فمه الصغير يبدو وكأنه يتحرّك ويتكلّم، يداه ورجلاه ساكنتان دون حراكٍ.. واقترب منه الرعاة!! ويا لدهشتهم حينما نظروا فوجدوا مريم العذراء ساكنة هادئة هناك، تبدؤ وكأنها غارقة في تأمل عميق (لو 2/16-19)! ووجهها كان يلمع كلمعان المعدن الساطع عندما تُشرق عليه الشمس بنورها، وصافياً كالماء الجاري في الأنهار، ومبتسماً خالياً مِن أيّ علامات للحزن كأنه سماء صافية لا يعكّر صفاءها غيم ولا سحاب! وبجانب العذراء جلس العفيف يوسف النجار (لو 2/16)، وقد ظهرت عليه علامات الغبطة والفرح.. لِمَ لا؟! وهو جالس أمام الطفل يسوع الإله المتجسّد وبجوار أطهر نساء العالمين! لنعود للرعاة ثانية!! لنتأمل دهشتهم! لقد رؤوا الطفل كما وصفه لهم ملاك الربّ، فهو قال لهم: «ستجدون طفلاً مُقمّطاً مُضجعاً موضوعاً في مذودٍ» (لو 2/12).. وها هوذا كلامه يتحقّق (لو 2/16)! وثَمَّة تسأل لابد منه: لماذا جاؤوا الرعاة إلى مذود بيت لحم؟!
تُرى هل ليبتاعوا لهم غنماً؟! أو ظنوا أنّ طفل المذود سيعطيهم مالاً يغتنوا به؟! أو اعتقدوا أنهم سيتفرّجون على مشهدٍ رائعٍ لطفلٍ نائمٍ؟! أم لأنهم أرادوا أن يختبروا صدق وعود الله؟! كلا.. كلا، لم يأتوا الرعاة للمذود مِن أجل هذا كلّه، فلم يأتوا ليبتاعوا أو يغتنوا أو يتفرّجوا أو يختبروا!! إنما أظنهم أتوا لسببين: أولاً: تلبيةً لدعوة الملاك! وهي لم تكن دعوته هو فحسب، بل هي دعوة السماء برمتها (لو 2/13-15)؛ ثانياً: لشعورهم باحتياجهم العميق إلى مخلّص! فكلام الملاك، كان هكذا: «وُلد لكم اليوم مُخلِّصٌ في مدينة داود، وهو المسيح الربّ» (لو 2/11). ولنعد إلى أنفسنا، ونتسأل: ماذا يمثّل لنا المذود؟! ·
ربما يكون المذود دعوة ما..
الله يدعونا للخلاص وللحياة معه؛ ويدعونا أيضاً دعوة خاصة، كل على حدى، دعوة مِن خلالها يستطيع الشخص أنْ يحيا معه ومع الأخرين، وأنْ يخدمه ويمجِّده في الأخرين ومعهم. v فهناك دعوة لتكوين أسرة مقدسة صالحة على مثال العائلة المقدسة، وهي الدعوة للحياة “العلمانيّة” أو “الزوجيّة”. v وثَمَّة أيضاً الدعوة للحياة “التكريسيّة” أو “الكهنوتيّة”، وهي دعوة للحياة على مثال يسوع الخادم المتضع والكاهن الأعظم، وليس على مثاله فحسب، بل أنّ وجود الشخص المكرّس عينه تتصوَّر فيه “صورة المسيح” الكاهن والراعي! v وثَمَّة أيضاً الدعوة للحياة”التعبديّة” أو “الرهبانيّة”، وهي الحياة التي مِن خلالها يتمّ التسبيح للثالوث، وهي صورة للأخرويات، وحياة الاتحاد الكامل بالله[1]. ·
ربما يكون المذود نفسه هو الدعوة..
هاك القديس فرنسيس الأسيزي يحيا فقيراً على غرار طفل المغارة، وهاك أيضاً الأخ شارل دي فوكو يتبع حياة الناصريّ الفقيرة، وهناك خوري آرس وأنطوان شفريه والأم تريزا، وهناك آخرون عديدون مِن القديسين والقديسات، والشباب والشبات الذين لا يزالون يحيون حياة المذود. فكم نحن بحاجة إلى مِن يعرف حياة المذود ليس بالأفواه والعظات فحسب، بل بكلّ الكيان أيضاً! فما هو موقفنا نحن اليوم؟ !إنَّ الواقع صعبٌ، لا بل ويُصعِّب الأمر أكثر، فهو يُضيف للصعاب صعوبة، وللأتعاب تعباً، وللضعفات ضعفاً. فهوذا الجميع يسعون إلى المال والغنى والمركز. ولكن مهلاً يا أحبائي، فإنّ طفل مذود مغارة بيت لحم قد عاش فقيراً قبلنا في مولده وحياته، وحتى في مماته. فهيا لنقتدي بشخصه الكريم.. هيا نعلن للعالم أجمع أننا لسنا مسيحيين فحسب، بل نحن المسيح. فمازال القديس أغسطينوس يصرخ فينا بعبارته المشهورة: «افرحوا لا لأنكم مسيحيون، بل لأنكم المسيح». فيسوغ لنا إذاً أن ننصاع لدعوة معلّمنا، ولحياة فادينا، ولمذود مخلّصنا، لكي نستطيع أن نسبر أغوار المذود الصغير العظيم، ونجعله واقعاً ملموساً يدعو الناس ليمجدوا الآب في ابنه يسوع وروحه القدوس. ولا غرابة في ذلك، فالمذود يشرح لنا سرَّ التجسّد، سرَّ اشتراك الثالوث.. فالله الواحد مثلث الأقانيم كشف عن ذاته..
ا لآب هو الذي أرسل ابنه إلى العالم!
والابن هو الذي أطاع أباه وتجسَّد بيننا!
والروح هو الذي حلَّ على أمنا مريم العذراء، ورافق أحداث الميلاد برمتها!
——————————–
[1] لمعرفة المزيد عن الدعوة إلى الحياة العلمانيّة والحياة الكهنوتيّة والحياة الرهبانيّة يمكن الرجوع إلى كتاب الأب/ فاضل سيداروس عن “خواطر في التبتل المكرس”.