stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

أدبية

حجر الأساس وبناء السعادة-الأب د. أندراوس فهمي

754views

feliceحجر الأساس وبناء السعادة-الأب د. أندراوس فهمي

لا يمكن للمسيحيّ أن يتجاهل خبرة من سبقوا وعبّروا عن خبراتهم، وكيف أنّ حياتهم وأعمالهم تثبت صحة خبرتهم، فإذا رأينا مثال أوغسطينوس الذي عاش حياته كما أراد وفعل كل شيء ثم تجده يهتدي ويختبر أنّ كل ما عاشه ما هو إلا سعادة جزئيّة غير مُرضيّة، ثم يعبر بكل قوّة وقناعة أن السعادة الحقيقيّة توجد في الله. وكذلك القديس بولس الذي أعد كل شيء نفاية ليربح المسيح، لأنّه وجد حقيقةً الكنز الحقيقيّ القادر على إسعاده.أنّه طريق السعادة والذي يتطلب منّا بالطبع معرفة الطريقة التي نجد بها الله كما وجدها هؤلاء، مع الانتباه أن طريقة البحث تختلف باختلاف الأشخاص وخبراتهم.

لكن هناك أساسيات ينبغي لنا أن نعيشها، أو بمعنى أخر هناك  أساسيات يجب ألا نهملها حتى نعرف الله ونجد فيه سعادتنا، ولكي نبحث عنها يجب أن نذهب إلى المنابع الحقيقيّة التي تُظهر لنا الله، ولنبدأ بحثنا في فهم كلمته وتطبيقها في الواقع العملي، فلنصغي إذا لهذه الكلمة.

من الملفت للانتباه عند تصفحنا للإنجيل بحسب القديس متى، أنّ أول تعليم يعطيه يسوع للجموع يقع في بداية الفصل الخامس، والمسمى بـ”عظة يسوع الكبرى” أو “الموعظة على الجبل”، وفي بداية هذه الموعظة يعلن يسوع خلاصة رسالته. إنّه كالباحث الذي يقدم لنا ماسوف يعلنه بحياته وبأعماله في مقدمة رائعة لبحثه. وكما أن الملاك أعلن للرعاة قائلاً: “ها إني أُبشركم بفرح عظيم…ولد لكم اليوم مخلص” كذلك يبدأ يسوع اولى تعاليمه بهذا الإعلان: “طوبى” أي “يالسعادة”، وهي كلمة كتابيّة تستخدم عادةً في حالة الحصول على هبة ما، أو لإبلاغ خبر سعيد.

لكن الذي يبدو غريباً هو أن يسوع يقرن هذه الكلمة بكلمات أخرى، أولها “فقراء الروح”، فيقول: طوبى لفقراء الروح… لذلك دعنا معاً، عزيزي القارىء، نفكر سوياً في مقصد يسوع.

1.   طوبى لفقراء الروح فإنّ لهم ملكوت السموات، وللودعاء لأنهم يرثون الأرض

لقد كان تفسير التطويبات مصدر تساؤلٍ مستمر لكثير من اللاهوتيين وآباء الكنيسة والمفكرين. فكيف يغبط يسوع كل الفئات المهدورة من المجتمع؟ وكيف تكون سعادة هؤلاء؟ وهل حقاً هذه الفئات سعيدة؟ إنها تساؤلاتنا أيضاً اليوم: ماهو هذا الفقر الروحي الذي يجعل من صاحبه مالكاً للملكوت؟!

الفقر الروحي والوداعة

هما وجهان لعملة واحدة، فكلاهما يصف حالة الإنسان في مسيرته نحو التخلي وعدم التعلق لا بالأشياء ولا بالأشخاص ولا بغيرهما. إنها مسيرة السعادة التي تبدأ أولاً بعمليّة تطهير روحي عميق للنفس. فكما أشرنا في المقال السابق أنّ السعادة الحقيقيّة لا تكمن فقط في حالة الرضا النفسي، لكنها تسعى إلى إشباع احتياج الروح، ولذلك نتحدّث هنا عن الفقر الروحي، أي تلك الحالة الصافية للروح التي تسعى لأن تعيد خلق إنسان حر، غير مشروط ولا محدد بأي شيء. فحريّة الروح هي أعظم ما يمكن أن يصبو إليه الإنسان، أن ينتابني هذا الإحساس المرهف بأنّه ليس من قيود ولا حدود ولا شروط فهو حجر الأساس لبدأ مسيرة البحث عن السعادة الحقيقيّة.

إن كلمة “الفقر” تعني العوز أو الاحتياج، ولكن في سياق حديث يسوع لا يُقصد بها عوز الروح، بل تلك الحالة التي فيها لا يوجد ما يُقيد ويتحكم في انطلاقة الروح، لأنّ الإنسان الذي تتعلق روحه بأشياء أو أشخاص… يكون بطبيعة الحال مشروطاً بمتعلقاته، فبقدر ما يزيد تعلق الإنسان بقدر ما تزيد حساباته للأمور. ولتبسيط هذا نعطي المثل التالي: فإذا تعلق شخص بالمال مثلاً وزاد هذا التعلق نجده دائم الحساب، فيهتم بأمورٍ كثيرة للحفاظ وتضعيف أمواله، فنجده مشغولاً بذلك كثيراً وهذا الانشغال لا يجعله يهتم بما هو للروح، فلا وقت لديه لإشباع احتياجات الروح التي هي على نفس المستوى من احتياجات الجسد، وبالتالي تغطي هذه الانشغالات وتضع حدوداً على تفكيره وعلى سلوكياته، ولذلك نجد المال يتملك عليه بهذه الانشغالات والهموم، وبالتالي يقع فريسة لتلك القيود والمحددات، ومن جديد نجدنا أمام قضيّة الحريّة، فالشخص يصبح اسير متعلقاته إذا ما ترك روحه مُمتلَكة من الأموال.

من أين نبدأ؟سوف نعرض، بصورة بسيطة، بعض الأمثلة للسلوكيات المسيحيّة التي من شأنها أن تساعد الإنسان على التخلي ومحاولة الوصول إلى ما نسميه “الحياد” أو “الموضوعيّة” في تعاملنا مع الأشياء والأشخاص وغيرها. وذلك من خلال استخدام العقل في تحليل الأمور والرجوع إلى الوحي الإلهي لينير لنا البصيرة. هناك ثلاث مجالات أساسيّة واضحة- من وجهة نظرنا- يمكنها أن تقيد الروح وتؤثر على سعادة الإنسان: المال، والسُلطة، والأشخاص. وسوف نتحدث ونحلل باختصار عن كل منها.

1.   حب المال

بشكل عام، نجد الإنسان يبحث عن الإمتلاك لهدفٍ صالحٍ، فهي تعطي الإنسان شعوراً بالأمان والإطمئنان حيث أنّه يرغب في حياة رغدة ومستوى معيشة جيد، فالهدف إذاً هو خيّر ومقبول بل وضروريّ. أن يكون لديّ مسكناً جميلاً ومعداً بصورة جيدة فهذا يضفي على الحياة نوعاً من الرضا وشعوراً بالراحة النفسيّة. كذلك أن أوفر من الأموال ما يضمن لي المأكل والمشرب والملبس فهذا أيضاً هدفٌ نبيلٌ وضروريّ. فالإنسان عليه أن يقوم بدوره حتى يعيش حياة كريمة، ولا مانع من أن يكون له طموحاُ في تحسين مستواه والرقي بحياته الماديّة. لكن! عندما يتحول المال من وسيلة لتحقيق هذا الرضا إلى هدف في ذاته، تدخل هنا فكرة التعلق السلبيّ بالمادة. وهنا لدينا تأكيد لحديثنا نستقيه من خبرة القديس بولس الذي يقول لنا: “حب المال أصلُ كل شرّ، وقد استسلم إليه بعض الناس فضلّوا عن الإيمان وأصابوا أنفسهم بأوجاع كثيرة” (1تيم 6: 10).

من هذه الكلمات نخرج ببعض الإجابات، فالإنسان الذي يحب المال، أي الذي يتعلق بالمال تكون النتيجة الحتميّة أن يكون تعلقه بالمادة سبباً أساسياً في بذرة الشر التي تنبن رويداً رويداً مع حب المال، وتؤدي به ليس إلى الحياة بل إلى الموت. إنّنا بصدد دعوة صريحة لتنقيّة مفهومنا عن رزيلة حب الامتلاك.

الرشوة كمثال!

من ضمن الأمثلة العديدة التي تجعل منّا عبيداً للمادة، نجد موضوع الرشوة. فكيف نحكم اليوم على كثير من المؤسسات والأشخاص الذين يعملون في مؤسسات وهيئات، والتي يٌفترض أنّ دورها الأساسيّ هو خدمة المواطنين، لكن نظراً لتغلب رزيلة حب المال والرغبة في تحسين المستوى الاقتصادي بأي وسيلة، نجد أنّ حب للمال -حتى وإن كان بنيّة صالحة لتحسين مستوى معيشتهم- يدفع لتقاضي الرشاوي بشكل أصبح اعتيادياً، بل وقد تصل إلى أنّ الرشوة أمست كلمة يجب أن نمحوها من قاموس اللغة لأنها وجدت لها أسماءً أخرى. والغريب في الأمر أنّ هذه المسميات ما هي إلا وسائل للهروب من مواجهة الضمير، فيبتكرها الإنسان حتى يقنع ذاته والأخرين بأنّه لا يخالف. ففي واقع الأمر المرتشي هو إنسان يخطأ خطيئة مزدوجة: 

1. الرشوة، خطيئة ضد القريب:

فمن جهة المرتشي يخون الأمانة التي وكلت إليه ويستخدمها لتحقيق مكاسب غير مشروعة، بل ويقهر الأخرين مستخدماً سلطته، ويبيع مالايملكه، بل ويسلب أوموالاً ليست من حقه، وكل هذا في الواقع هو نوع من أنواع القهر التي يتوارثها أبناؤنا، مما يخلق روحاً مقهوراً ومرغمة دائماً أن تدفع أثماناً باهظة هي في غنى عنها إذا ما عرف كل إنسان حقه وقام بواجبه. إنها خطيئة كبيرة ضد المجتمع بأكمله، فالمرتشي ومعطي الرشوة كلاهما مٌدان، فالمجتمع الذي نراه يسير بمحسوبيات ورشاوي هو مجتمع يحكم على أبنائه بحياة العبوديّة والذل، وهذا بالطبع عكس روح الحريّة التي تصبو إليها المجتمعات المتحضرة. وما ينطبق على المرتشي ينطبق بالمثل على مانح الرشوة، فهو الآخر يساهم في فساد ضمير الشخص المرتشي وفساد المجتمع.وليس هنا مجال تفصيل الكلام حول الآثار الإجتماعيّة المضنيّة التي تخلقها العقلية المرتشية، فكم من الوقت والمجهود المهدور من قبل الإنسان الذي يريد أن يحيا بأمانة، وكم هي الإهانات التي يواجهة، وعدم الاحترام الآدمي الذي يواجهه طالب المصلحة من إنسان مرتشي وله سلطة. أما الخطر الأكبر هو أن يشعر الشخص بأنّ عاجز عن المطالبة بأبسط حقوقه، أي أن يٌعامل كإنسان. وأخيراً، ولمعرفة خطورة عملية الرشوة، أدعو الجميع للنظر حولنا لتلك المجتمعات التي انتشرت فيها قضية الرشوة، لنرها مجتمعات لا يستطيع أن يتلفظ فيها الشخص بطلب أبسط حقوقه، مجتمعاً لا يستطيع أصحابه الإرتقاء بأرواحهم ليعيشوا قيم إنسانيّة مثل الأمانة واحترام الآخر.

2. الرشوة خطيئة ضد الله:

فقد وضع الله فينا ضميراً صالحاً يساعدنا على الإحساس بالخطيئة والشر، أنّه المصباح المنير الذي من دوره أن يرفع ويحرر الإنسان ويدفعه نحو تحقيق القيم الإنسانية والروحيّة وأن يقوده نحو السعادة الحقيقيّة. إلا أننا نجدنا أمام عملية تشويه جائر لهذه المنارة من خلال قضية الرشوة، بل ونبدّل من دورها. فأصبحت الضمائر اليوم قليلة الحساسيّة نحو الشر، وكأنّ الإنسان يريد أن يقول لله أنّ ما خلقته فيّ ليس صالحاً، وأنا أرى أفضل منك. إنها إهانة لما صنعه الله، إنها إهانة لله الصالح الذي يخلق كل شيء بصلاح، بل يمكن أن نقول أنها خطيئة إلحاد بمعناها العميق، فالملحد هو الذي ينكر الله، وبالرشوة ننكر على الله أنّه صالح لأننا قمنا بتزييف وتغيير دور الضمير، وأصبح الإنسان كما “مائت ضمير”، فلا يستطيع الحكم الصائب على الأشياء، بل وتجده ينصح الآخرين بالرزيلة كما لو كانت هي الصلاح بعينه.وفي ذلك يقول القديس يعقوب أن “الشهوة إذا حبلت تلد خطيئة والخطيئة إذا كملت تنتج موتاً” (يعقوب 1: 15)، وهكذا الرشوة، فهي كخطيئة لا تكتفي بما هي عليه بل تكتمل بإهدار أكبر، فنجدنا أما قضية أكبر ألا وهي قضيّة الفساد. فكم من قضايا الفساد تنشأ من حب المال والتعلق به، فنسمع يومياً عن أشخاصاً أهدروا المال العام أو استخدموا مراكزهم لمصالح شخصية أو ما شابه ذلك. والغريب في الموضوع أنّه بمجرد سماع خبر مثل هذا نجد الكل يستاء وينكر ويندد، وننسى أنها منظومة تبدأ مني أولاً، وبأبسط الأمور، فأنا الذي أسمح لغيري أن يستغلني ويستغل سلطته، فبعدم المعرفة والجهل بالحقوق والواجبات نجدنا مضطرين للمساهمة في إزدياد عملية الرشوة بصورها البسيطة والمركبة.

فالكل مطالب أن يبدأ بنفسه قبل أن يلوم هذا الذي انتفخ من خلال تساهلي في حقوقي. أنها الخطيئة التي إذا حبلت تلد خطيئة أخرى. وفي آخر المطاف نجدنا أمام “الموت” الذي يحدثنا عنه القديس يعقوب، ففي نهاية الأمر نحن لا نعيش = موت، فالإنسان الذي يحيا ليس هو من يأكل ويشرب وينام، بل ذلك الحرّ الذي يحقق ذاته من خلال حياة الفضيلة، فإذا سقطنا في قبضة حب المال نجدنا أمام قضيّة الموت.لا أرغب أن أكون خارج العالم، ولذلك أتذكر معكم أننا نعيش اليوم في واقع، وهذا الواقع يفرض أحياناً سلوكيات خاطئة مثل الرشوة، فلا يمكن أن نترك الموضوع بدون محاولة للإنقاذ. ولكن أريد أن أتذكر معكم ما بدأت به مقالي السابق، ألا وهو أننا نحاول أن نعيش أفضل ما في الحياة، وهذا يتطلب تعب ومجهود كبير. فالرشوة والفساد هما واقع مرير، لكن المعالجة ممكنة، هذه المعالجة التي تمثل بالنسبة لنا إنطلاقة الروح. ولا يجب أن نتوقع حياة سعيدة بدون مجهود، وكما قلنا سابقاً أن في هذا المجهود تكمن أيضاً السعادة وتحقيق الذات. إنّه مصير كل من يريد الحياة الأفضل، إنه الجهاد الروحي.

يحضرني هنا موقف أحد الطلبة الذي كان يدرس معي في معهد التربية الدينية مادة اللاهوت الأدبي، وقد تناولنا هذا الموضوع في وسط حديثنا في المحاضرات، وقد فاجئني في امتحان نهاية العام بسرد خبرة صغيرة لاستخراج رخصة السيارة، وكيف صمم أن يستخرجها بدون دفع رشاوي، وكم كلفته من عناء ومشقة، ولكن مع هذا فقد عبّر كم كانت سعادته، رغم كل التعب فقد فقد كثيراً من الوقت والمجهود ولكنه اكتسب قيمة روحيّة كبيرة. بالطبع ليس سهلاً أن يعيس الإنسان بالقيم ولكن إذا فٌقدت القيم فهل يمكن أن نقول أنّنا أحياء؟؟لا يفوتنا أن نترك مجالاً للقارىء العزيز ليفكر هو أيضاً في باقي الخطايا التي تنتج عن حب المال والتي تولِّد الموت: فكم من المال يقسّم العائلات ويطفىء علاقات أسريّة حميمة؛ وكم من صديق يقتل صديقه بسبب شجار على مائة جنيه؛ وكم من فتيان وفتيات انتهت حياتهم الأخلاقيّة بسبب حب المال والسعي إليه؛ وكم من الأشخاص الذين يعيشون ويموتون ولا يذوقون لحظات حريّة وانطلاقة روحيّة؛ وكم من الأموال كان حبها سبباً في احتلال بلدان وإذلال شعوبها؛ وكم من الأوقات الجميلة التي نفقدها بسبب تلك الغشاوة التي يضعها حب المال على بصيرتنا؛ وكم من الإهمال في الواجبات الزوجيّة بسبب السعي فقط لكسب المال دون الاستفادة منه في خلق جو أسري هادىء وكريم…

هناك العديد من القضايا التي إذا سردناها فقط دون تحليل سوف تستنفذ كل قوانا الفكرية، لكن دعنا، عزيزي القارىء، أن نختم هذا المقال بما قد بدأنا به، ألا وهو أهميّة تقدير كرامتي كإنسان، وأهميّة أن أحيا حياتي التي قد تمتد أو قد تقصر ولكن بكرامة وببحث صادق عن كل ما يساعدني أن أنزع الأتربة عن ضميري الصالح، وأترك لله أن يعمل به ومن خلاله. فمعركة الحياة ليست سهلة وتستدعي دائماً وجود الله ووجود بعداً روحياً عميقاً يدفعني إلى الشجاعة وتحمل مسئوليّة اختياراتي. إنّ انطلاقة الروح وحريّة السلوك لن تكون ممكنة إذا لم نصغي أولاً لصوت الله وأن نطلبه ليعين ضعفنا، إنها ليست صلاة بالشفاه ولكنها صلاة الحياة التي تتطلب مني أن أسعى مع الله لبناء الملكوت، فكم تكون سعادتي إذا ما ساهمت في تحرير النفوس، إنه معنى من معاني الملكوت،

فطوبى للفقراء بالروح لأنّ لهم ملكوت السموات.