عظة أحد بشارة زكريا-الإكليريكي أنطونيوس زكا
«كيفَ يكونُ هذا وأنا شَيخٌ كَبـيرٌ واَمرأتي عجوزٌ؟» ( لو1/19)
مجدًا وإكرامًا، إكرامًا ومجدًا للثالوث القدوس، الله الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد أمين.
اليوم هو الأحد الأول من شهر كيهك المبارك، والذي تكرّم فيه الكنيسة ، أمنا مريم العذراء بتسابيح وتماجيد روحية، استعدادًا لميلاد السيد المسيح، فخصصت الكنيسة في الأحد الأول من هذا الشهر البشارة بميلاد يوحنا المعمدان، والأحد الثاني البشارة بميلاد يسوع المسيح، والأحد الثالث زيارة العذراء مريم لاليصابات.والأحد الرابع ميلاد يوحنا المعمدان.
واليوم هو الأحد الأول من كيهك وفيه نتأمل بشارة زكريا الكاهن بميلاد يوحنا المعمدان الذي يسبق ميلاد المسيح. أنه آخر أنبياء العهد القديم الذين دُعوا لتهيئة مجيء المسيح، وأول رسول من العهد الجديد.
نص اليوم من إنجيل ربنا يسوع المسيح بحسب القديس لوقا (1/ 1-25).
والذي يحدثنا عن زكريا الكاهن الرجل المسن، وزوجته اليصابات العاقر المسنة، وأنه في أثنا خدمته الكهنوتية ظهر له ملاك الرب وبشّره بأن الله سمع دعاءه وستلد له امرأته ابنًا، ولكنه شك في بشارة الملاك له وعُوقب بالخرس، ورغم شك ألا أن الله تحنن عليه ووفى بوعده. ومن هنا تبدأ عظتنا المكونة من نقطتين:
الأولى: معنى بشارة الملاك لـ زكريّا. والثانية: إيمان زكريا مقارنة بإيمان إبراهيم أبو الآباء وإيمان العذراء مريم.
النقطة الأولى: معنى بشارة الملاك لـ زكريّا
البشارة هي نقل خبر مفرح عن تدخّل الله في التاريخ لتدبير الخلاص.
هناك ثلاث بشارات رسمت حدود تاريخ الخلاص:
الأولى: بشارة إبراهيم
بشّر الله إبراهيم، “ستلد لك سارة ابنًا وتسميه اسحق” (تك 17: 19)، اسحق الذي من صلبه يولد أسباط شعب الله الاثنا عشر، وهؤلاء من خلالهم تسير كلمة الله الواعدة بالخلاص إلى تحقيقها.
الثانية: بشارة زكريّا
«لا تخَفْ يا زكَرِيَّا، لأنَّ الله سَمِعَ دُعاءَكَ وسَتَلِدُ لكَ اَمرأتُكَ أليصاباتُ اَبنًا تُسمّيهِ يوحنَّا” (لو1/13).
يوحنّا الذي يختتم مسيرة شعب الله، كآخر نبيّ منه، ويفتتح، مسيرة شعب الله الجديد، ويوحنّا فيه أوّل رسول.
الثالثة: بشارة مريم
فقالَ لها المَلاكُ:”لا تَخافي يا مَريَمُ، نِلتِ حُظْوةً عِندَ الله: فسَتَحبَلينَ وتَلِدينَ اَبنًا تُسَمِّينَهُ يَسوعَ”.(لو1/30-31).
يسوع المسيح الفادي، الذي يبلغ معه ملء الزمن، ويبدأ شعب الله الجديد .
فلا يمكن فهم أهمية بشارة زكريا إلا بارتباطها الوثيق ببشارة مريم، أي يمكن اعتبار بشارة زكريا بشارة صغرى في خدمة البشارة الكبرى( البشارة بالمخلص).
كانت أمنية زكريّا واليصابات أن ينجبا ولدًا. فاستجاب الله صلاتهما (لو 1/13). «ولكونهما بارَّين أمام الله وسالكين في جميع وصايا الربّ وأحكامه بلا لوم» (لو 1/6)، بشرّهما بولد، وفي الواقع لم تكن البشرى لهما فقط إنّما البشرى للشعب كلّه الذي ينتظر المخلّص والذي سيعدّه يوحنّا لقبول الخلاص:« ستَفرَحُ بِه وتَبتَهِـجُ، ويفرَحُ بمولِدِهِ كثيرٌ مِنَ النـاسِ» (لو 1/14). ويصف الملاك لـ زكريّا رسالة يوحنّا بدءً من معنى اسمه.
يوحنا اسم يعبر عن رحمة الله وحنانه. الاسم وحده يعلن مجيء المسيح الذي سيجسّد رحمة الله. ففي شخصه وأعماله ظهرت رحمة الله لوالديه وللشعب المنتظر خلاص الرب.
تكمن عظمة يوحنا في رسالته والتي هي مضمون البشرى للشعب كلّه، يَهدي كثيرينَ مِنْ بَني إِسرائيلَ إلى الرَّبِّ إلهِهِم، ويسيرُ أمامَ الله بِرُوحِ إيليَّا وقُوّتِهِ، ليُصالِـحَ الآباءَ معَ الأبناءِ ويُرجِـعَ العُصاةَ إلى حِكمةِ الأبرارِ، فَيُهيِّـئٌ لِلرَّبِّ شَعبًا مُستعِدُا لهُ.
إن كانت عظمة يوحنا تكمن في رسالته! فأين تكمن عظمتنا نحن اليوم؟ تكمن في الهدف الذي نكرس من أجله حياتنا، في جهادنا من أجل تحقيق هذا الهدف بتواضع وإنكار للذات.
تظل شخصية يوحنا مثالاً يقتدى به. فمجتمعنا يحتاج إلى أشخاص مثله يعدون للرب شعبًا صالحًا، مدافعين عن الحق بشجاعة مثلما قال لهيرودس: ” لا يحق لك أن تفعل هذا “. نحن بحاجة الى أصوات مسئولة تقول للمستبد “لا يحق لك أن تفعل هذا”. لا يحق أن يُسخّر الصالح العام للمصالح الخاصة أو الفئوية.
النقطة الثانية/ مقارنة ما بين إيمان إبراهيم وإيمان زكريا وإيمان مريم
إيمان إبراهيم
لقد وعد الله إبراهيم بأن نسله سيرث الأرض في الوقت الذي كان فيه قد صار شيخاً, وزوجته سارة كانت عاقراً ولكن “آمن إبراهيم بالله فحسب له براً” (تك 6:15).
نعم تساءل إبراهيم مع الرب «قائلاً، كيفَ أعلمُ أنِّي أرِثُ الأرض؟» ( تك15/8) ولكن تساؤله كان بإيمان ” وآمَنَ إبراهيمُ راجِيًا حيثُ لا رجاءَ، وما شكَ في وَعْدِ الله، بَل قَوّاهُ إيمانُهُ فمَجَّدَ الله، واثِقًا بأنَّ الله قادِرٌ على أنْ يَفِيَ بِوَعْدِهِ.” (رو4/18، 20-21).
ثقة إبراهيم المطلقة بقدرة الله جعلته يتخلّى منطق البشر وآمن بأن الله سيفي بوعد له. جَعَله أبًا لأُممِ كثيرة، بهذا كان إبراهيم أعظم نموذج للإيمان في العهد القديم .
إيمان مريم
فقالَت مَريَمُ لِلملاكِ: «كيفَ يكونُ هذا وأنا عَذراءُ لا أعرِفُ رَجُلاً؟ (لو1/34) أيضًا مريم تسألت ولكن تساؤلها كان للاستفسار لا للشك، لأنه لم يحدث من قبل أن عذراء تلد من غير زرع بشر، أمر منافي للطبيعة البشرية، لم تشك في قدرة الله، لذلك حينما وضّح لها الملاك أن الرُّوحُ القُدُسُ يَحِلُّ علَيكِ، وقُدرَةُ العليِّ تُظَلِّـلُكِ، لذلِكَ فالقدُّوسُ الذي يولَد مِنكِ يُدعى اَبنَ الله” أمنت، فقالَت «أنا خادِمَةُ الرَّبِّ: فَلْيكُنْ لي كَما تَقولُ”
بشارة الملاك للعذراء كشفت لنا جوهر الإيمان العميق في حياتها. إيمان مريم إيمان بلا شك بلا جدال.
إيمان زكريا:
فقالَ لَهُ المَلاكُ: «لا تخَفْ يا زكَرِيَّا، لأنَّ الله سَمِعَ دُعاءَكَ وسَتَلِدُ لكَ اَمرأتُكَ أليصاباتُ اَبنًا تُسمّيهِ يوحنَّا. فقالَ زكَرِيَّا لِلمَلاكِ: «كيفَ يكونُ هذا وأنا شَيخٌ كَبـيرٌ واَمرأتي عَجوزٌ؟ ( لو1/19)
الفرق بين زكريا وإبراهيم، طريقة تفاعله مع بشارة الملاك.
شك زكريا ببشارة الملاك، واعتبر كلامه كلاماً بشريًا، نظر إلى عقم زوجته، ولم ينظر على قوة الله وقوة كلمته الفاعلة، لم يترك للإيمان مجالاً فعليًا في حياته، وهو الكاهن الخبير بالكتب الإلهية، فلم تكن معجزة ولادة يوحنا من أم عاقر وأب شيخ, هي المعجزة الأولى في التاريخ إذ سبقتها معجزات, فهوذا إسحق قد وُلد من إبراهيم المسن وسارة العاقر (تك 18), صموئيل من حنة (1صم1), ولكن المعجزة التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ، هي معجزة ولادة المسيح من عذراء بدون زرع بشر.
إن إيمان زكريا توقف عند الممارسات والشعائر التقوية، لم يصل على عمق الإيمان، فما كان ينقصه إيمان منفتح على عمل الله وقدرته، وهذا ما ينقص الكثير من الناس الذين يتوهمون أنّهم مؤمنون لأنَهم يُمارسون الطقوس والشعائر فقط. كل هذه الأمور ليست إلاّ طرق ووسائل للتعبير عن الإيمان.
” لكنَّكَ ستُصابُ بالخَرَسِ، فلا تَقدِرُ على الكلامِ إلى اليومِ الذي يَحدُثُ فيهِ ذلِكَ، لأنَّكَ ما آمنتَ بِكلامي، وكلامي سيَتِمُّ في حينِهِ” (لو1/20)
صمت زكريا كان علامة للشعب عن حدوث الرؤيا والبشارة، ودعوة لـ زكريّا وزوجته وللشعب إلى التأمّل بصمت ورجاء في تدخّل الله ، وإلى انتظار تحقيق الوعد:
الصمت وسيلة أساسيّة لسماع صوت الله في القلب، وللتأمّل في أسراره. نصمت ليتكلّم الله، ليتدخّل في حياتنا.
” اللهُ هو صديقُ الصّمتِ، وبمقدارِ أن نحصلَ على النّعمِ في الصّلاةِ الصامتِ ، نستطيع أن نهب في حياتنا العملية” .
الأم تريزا كالكوتا
عدم إيمان زكريا لم يمنع حب الله وحنانه ورحمته بأن يفي بوعده لـ زكريا. بشارة زكريا بالنسبة لنا اليوم تدعونا إلى تجديد إيماننا.بأن وعد الله يتم لا محالة ولكن في أوانه.
ونحن اليوم هل إيماننا إيمان مثل إبراهيم ومريم يقودنا للتسليم والطاعة الكلية لإرادة الله أم مثل زكريا نحتاج إلى هزّة عنيفة في حياتنا لنؤمن ؟ هل نثق بالله وبمواعيده له ؟