عظة المولود اعمى منذ ولادته-الإكليريكي أنطونيوس زكا
مقدمة
اليوم هو الأحد الخامس من الصوم الأربعيني المقدس، والذي تطلق عليه الكنيسة اسم أحد التناصير ( حيث أعتاد المؤمنون على تقديم أطفالهم لنيل سر المعمودية)، ولذلك تضع لنا الكنيسة نص معجزة الأعمى منذ مولده والتي انفراد بسردها القديس يوحنا ( يو9/ 1-38)، وكنا قد تأملنا في هذه المعجزة في الأحد الرابع من شهر طوبة. لكن لماذا تضع لنا الكنيسة هذا النص في أحد التناصير ، بالرغم من أن هناك نصوص كثيرة لها صلة بسر المعمودية؟ ذلك لما في النص من رابط الأعمى منذ مولده وقابل سر العماد. وها هو الرابط:
• الأعمى منذ مولده لا يتمتع برؤية النور أي أنه يعيش في ظلام، وكذلك الطفل المولود يولد بالخطيئة الأصلية أي أنه يعيش في حالة ظلام، وبالمعمودية ينتقل من الظلام إلى النور.
• اغتسال الأعمى في بركة سلوام إشارة إلى مياه المعمودية التي تغفر الخطايا.
• تغيرت حياة الأعمى بعد تفتيح عيناه وكأنه ولد من جديد، والمعمودية هي ميلاد جديد.
• الأعمى منذ مولده أمن بابن الله، والمعمودية مرتبطة بالإيمان، “من آمن واعتمد خلص” مر 16:16
أحد التناصير هو دعوة للحياة في المسيح.
“تفل في الأرض، فجبل من تفاله طينًا، وطلى به عيني الأعمى، ثم قال له اذهب فاغتسل في بركة سلوام. فذهب فاغتسل فعاد بصيرًا ” (يو 9/ 6-7)
النقطة الأولى: رد فعل الأعمى منذ مولده ( إيمان- طاعة – شهادة)
أعمى منذ مولده، كان يجلس على الطريق ليستعطي، رآه يسوع فطلى عيناه بالطين وقال له اذهب اغتسل في بركة سلوام. فذهب فاغتسل فعاد بصيرًا، ولكنه عانى من بصره من جيرانه من والديه من الفريسيين، وفي نهاية القصة يؤمن بابن الله ويسجد له.
هذه المعجزة على عكس غالبية المعجزات التي قام بها يسوع، حيث أن الأعمى هنا لم يطلب من يسوع أن يشفيه مثلما فعله أعمى أريحا وصاح أرحمني يا ابن داود، والمرأة نازفة الدم وغيرهما من المعجزات. يسوع في هذه المعجزة هو صاحب المبادرة ، حيث أنه وهو سائرٌ في الطريق وجد هذا الأعمى يستعطي، أظن أن هذا الأعمى احتياجاته أكثر من أن يطلب المال والمأكل والمشرب، فقد يعطيه أحد مالاً، ولكن لا يوليه أحد أي اهتمام إنساني حتى والديه عند استجواب الفريسيين لهما خافا وتخليا عنه وقالا انه كامل السن فأسالوه. أنه يحتاج إلى الحب والحنان إلى السؤال عنه. وهذا ما فعله يسوع معه، أولاه كل اهتمام أحبه وبادر لمساعدته لشفائه.
تُرى ما الذي دفع هذا الأعمى لأن يثق في كلام يسوع ويطيعه؟ الحب! الحب الذي غمره به يسوع، الحب الذي يغير، الحب الذي لا يعرف المستحيل. هذا ما دفع الأعمى للطاعة بدون حدود.
الطاعة التي ظهرت في أنه ترك يسوع الذي لم يرآه من قبل، أن يطلي عيناه بالطين ولم يتذمر أو يستهزأ بيسوع ويقول له أ تريد أن تُزيدني عمى على عميا، يطلب منه يسوع أن يذهب إلى بركة سلوام، لم يعترض وأطاعه ولم يقل ليسوع ألا تستطيع أن تشفيني بدون أن اذهب إلى بركة سلوام، أو أتريد أن تُزيدني عجزًا على عجزي، كيف تطلب مني الذهاب إلى بركة سلوام وأن أعمى لا أعرف طريقها، قد أكون سمعت عنها ولكن لا أعرف طريقها.
طاعة وإيمان بلا حدود.
أعتقد أن الطاعة والإيمان اللذان تحليا بهما هذا الأعمى نتيجة حب يسوع له ومبادرته لشفائه.
ونحن دائمًا ما يبادرنا يسوع بالحب أين تجاوبنا على هذا الحب؟ هذا الأعمى كانت تعترضه إعاقته عن الرؤية، عن فعل أشياء كثيرة ولكن عندما طُلب منه آمن وأطاع، فعاد مبصرًا، ونحن اليوم كمكرسين قد تعترضنا صعوبات وعقبات كثيرة في طريقنا قد يُطلب منا (طين تفل غسل)؟ ماذا يكون رد فعلنا على هذا. هل نفعل كما فعل الأعمى أم…؟
عانى هذا الأعمى الكثير نتيجة إعادة بصره، من جيرانه واستجواب الفريسيين له وضغطهم عليه لدرجة إن والديه تخليا عنه، وأنه طُرد من المجمع، ولكنه تميز بشخصية قوية لم يخَف ولم يخشى الفريسيين وجاهر وشهد أن الذي فتّح عيناه نبي، ودافع واعترف به أنه من عند الله. حتى وغن كانت شهادته كلفته طرده من المجمع وعبّر عن إيمانه وشهادته بأنه قدم ليسوع سجودًا لائقًا بالعبادة.
يا تُرى هل ارتكز إيمان هذا الأعمى على بصره لأنه رأى يسوع؟ بالطبع لا فكثيرون رأوا يسوع ولم يروا فيه حقيقة، ومثال على ذلك الفريسيين بالرغم من رؤيتهم للأعمى أنه أبصر قالوا عن يسوع أن ليس من الله. ارتكز إيمان الأعمى على بصرته الداخلية التي أنارها له يسوع، ليس كل من يتمتع ببصر العينين يتمتع بالبصيرة الداخلية. منْ الذي يمنح البصيرة ؟
النقطة الثانية: يسوع نور العالم مانح البصيرة:
“ما دمت في العالم فأنا نور العالم ” ( يو9/ 5)
حينما يدخل شعاع النور مكانًا مظلمًا يبدد ظلامه، وهذا ما حدث مع الأعمى منذ مولده ، الذي لم يعرف النور أبداً، أشرق يسوع نوره في عينيه الجسديتين، كما أشع نوره أيضًا في قلبه، لقاؤه بيسوع جعله يرى بعينيه ويبصر بقلبه.هذا النور هو الذي دفع الأعمى للإيمان بيسوع والشهادة له.
يسوع هو النور الآتي إلى العالم، النور الذي ينير كل إنسان، ولكن الناس فضلوا الظلام عن النور لأن أعماله كانت سيئة، ” فكل من يعمل السيئات يبغض النور فلا يُقبل إلى النور لئلا تُفضح أعماله” (يو3/ 20).
كثيراً ما نسير وراء أنوار العالم المزيفة التي تجذبنا، فنفقد البصيرة ونصبح عميانًا ونضل الطريق. نكون في ظلام حينما نفقد الوحدة والسلام مع المسيح، حينما ننغلق على أنفسنا، حينما تتملكنا شهوات العالم،كل ذلك يُعمي بصائرنا، فالعمى الحقيقي هو عمى البصيرة، وليس عمى البصر.
لكن مهما كانت ظلماتنا، يسوع وحده هو القادر أن ينيرها، أن يمنحنا نعمة البصيرة المنيرة.
لِنُدخل نور المسيح إلى قلوبنا ليبدد كل ظلام. اليوم أحد التناصير يدعونا يسوع لأن نزيل عن بصائرنا الظلمة، يدعونا للحياة الجديدة معه.
يارب أنر بصائرنا كما أنرت بصيرة الأعمى منذ مولده.
ولإلهنا المجد الدائم إلى الأبد. آمين.