كتاب تاريخ الكنيسة القبطية الكاثوليكية -القسم الاول نشأة كنيسة الاسكندرية ودورها وإزدهارها ( 48 م – 451 م )
الفصل الرابع
نشأة الرهبنة
بقلم : القمص اسكندر وديع
منذ القرن الثالث، ظهر فى مصر نظام حياتى جديد، وهو النظام الرهبانى، ولذلك دُعيت مصر مهد الحياة الرهبانية. ومرت هذه الحياة بثلاث مراحل :
اولاً : مرحلة النساك المتعبدين تماماً.
ثانياً : المرحلة الأنطونية، وهى تجمع بين حياة الجماعة وحياة التوحد.
ثالثاً : نظام الشركة الذى يرجع تأسيسه إلى الأنبا باخوم.
أولاً : مرحلة النساك أو العزلة الإنفرادية :
نجد رجالاً كثيرين يبحثون عن الكمال فى الخلوة والصلاة، فيبتعدون قليلاً عن مساكنهم ويعيشون متجردين عن كل شئ. نعرف منهم الانبا بولا الذى كتب حياته “القديس هيرونيموس” وإلتقاه القديس إنطونيوس بإلهام إلهى. وأخبرنا القديس أثناسيوس عن المقابلة الأولى بينهما.
ومن أمثاله الشيخ الذى تتلمذ عن يده أنطونيوس فترة من الزمن. وكذلك الشيخ بلامون الذى قاد خطوات باخوم الأولى.
وبعد عصر الإضطهاد والحصول على السلام القسطنطينى، إزداد عدد هؤلاء المتوحدين، لما رأوا من فتور فى الكنيسة.
فالذين حُ موا نعمة الإستشهاد التى كانوا يتوقون إليها، أرادوا إستشهاد من نوع آخر إظهاراً لحبهم للمسيح. فكلن الإستشهاد اليومى مدى الحياه، فى طهارة تامة وأصوام وتقشفات وصلاة مستمرة ليبلغوا الكمال المسيحى.
وهذا ما نراه واضحاً كمثال فى منشئ الحياة الرهبانية الحقيقية، وهو “الأنبا أنطونيوس الكبير” – كوكب البرية ( 251 – 356 )
وُلد أنطونيوس “بقمن العروس” – ( فى محافظة بنى سويف حالياً ) سنة 251، وفى عائلة تقية غنية، ومات والده فى سن مبكرة.
ذهب يوماً إلى الكنيسة فسمع هذه الآية الإنجيلية : “إن كنت تريد ان تكون كاملاً فإذهب وبع كل شئ وإعطه للمساكين وتعال إتبعنى”
( متى 19 : 21 ).
وكان فى الثامنة عشرة من عمره، فشعر بأن هذا النداء موجة إليه شخصياً. فللوقت نهض وتخلى عن ماله وباع كل شئ ووزع ثمنه على المساكين.
ثم أودع أخته الوحيدة فى دار بعض النساء المكرسات، وترك المدينة وسكن فى صحراء مجاورة متفرغاً لله بالصلاة والعمل.
وهناك صار عرضة لتجارب كثيرة من قِبل الشيطان ليحّوله عن عزمه، ولكنه تغلب عليها كلها بقوة كلمة الله. وذاع فى المنطقة حتى كان كثيرون يأتون إليه طالبين إرشاده وبركته.
فعزم على أن يبتعد إلى مكان أكثر إنزواء. فبعد مسيرة تسعة أيام، وصل إلى مكان وجد فيه قبراً من قبور قدماء المصريين، فسكن فيه وأغلق كل منافذه. وكان أحد أصدقائه يأتيه ببعض الخبز كل ستة أشهر. وظل هناك عشرين سنة، عائشاً حياة النساك الأولين.
غير أن أنطونيوس لم ينعم طويلاً بالخلوة التى طاقت إليها نفسه، لأن الناس أخذوا يبحثون عنه حتى وجدوه. رفض أولاً مقابلتهم، ولكنه تحت إلحاحهم، إضطر إلى مقابلتهم، فتقاطر عليه الناس من مصر أولاً، ثم من البلاد الأخرى.
فمنهم من كان يطلب نصيحة ومنهم من كان يطلب بركة ومنهم من كان يطلب شفاء. وقد جاء أيضاً فلاسفة يناقشونه فى أمور الدين. وكان الجميع يتعجبون من حكمته ووداعته. وكثيرون أرادوا أن ينضموا إليه لكى يتتلمذوا على يده. وفهم أن إرادة الله هى أن يؤسس لهم نظاماً خاصاً يساعدهم فى طريق الكمال المسيحى وهكذا بدأت المرحلة الثانية من الحياة الرهبانية، وهى.
ثانياً : العزلة الجماعية” النظام الانطونى”.
وسمح لكل من يرغب فى هذه الحياة الجديدة ببناء قلاية فى جواره. وكثُر عدد هؤلاء الرهبان.
وكان كل منهم يحيا حياته الخاصة بإرشاد الأنبا أنطونيوس الذى كان الأب الروحى لجميعهم. وكان يجمعهم من وقت إلى وقت، يُلقى عليهم العظات التى تساعدهم على محاربة الشيطان. وكان تعليمه يتلخص فى قراءة الكتاب المقدس، والصلاة والتنسك فى الأكل والشرب والجمع بين كل هذا والعمل اليدوى كضفر السعف والخوص لصنع الحصير والسلال، حتى لا يجد الملل إلى أنفسهم سبيلاً.
وخاف أنطونيوس على نفسه من هذه الحشود التى كانت تقطع عليه صلاته.
فأراد أن يتوغل إلى الصحراء شرقاً. فوصل إلى جبل قسقام بالغرب من البحر الأحمر، وظل فى مغارة لا تزال إلى يومنا هذا.
ولم تكن خلوته هذه تمنعه من الإهتمام بالكنيسة وخدمتها عند اللزوم، لئلا نتصور أن الراهب لا يهتم إلا بنفسه. ويذكر لنا التاريخ انه ذهب إلى الإسكندرية مرتين، مرة ليشجع الشهداء على الثبات فى الإيمان وإحتمال الآلآم حباً للمسيح، معرضاً نفسه ومشتاقاً إلى الإستشهاد.
ومرة أخرى ليؤيد أثانسيوس فى مقاومة الهراطقة الأريوسيين الذين أشاعوا أن أنطونيوس من أنصارهم.
وكان يرجع بسرعة إلى خلوته قائلاً “إن الراهب لا يستطيع أن يعيش خارج صومعته، كما أن السمكة لا تستطيع ان تعيش خارج الماء”.
وكان القديس أثناسيوس قد زاره قبل ذلك سنة 333، وقضى عنده قترة من الزمن إلتماساً للأمن، وهرباً من إضطهاد الأباطرة الأريوسيين. ولذلك، فحين نُفى إلى تريف وإلى روما، كتب كتابه الشهير ”حياة أنطونيوس”، فعرف العالم الغربى أنطونيوس وتلاميذه والحياة الملائكية التى يعيشونها، مما جذب الكثيرين إلى برارى مصر ليشاهدوا بأنفسهم هذه الحياة.
ومن تلاميذه المشهورين “القديس أمونيوس” و “الانبا مقاريوس المصرى” اللذان أشار عليهما أنطونيوس بتدبير إللهى بأن يرجعا إلى مكان خلوتهما فى نتريا وبرية شيهيت. حيث تجمعت حولهم مجموعات وفيرة لتعيش على منوال تلاميذ أنطونيوس فى هذه الحياة الجماعية، مع المحافظة على الحرية الفردية. فيجتمع الرهبان ايام السبت والأحد للقداس الإلهى، وما عدا ذلك ينصرفون للصلاة الإنفرادية والتنسك، كلً بحسب ما بدا له بإرشاد أبيهم الروحى.
ثالثاً : الأنبا باخوم أبو الشركة الرهبانية ( 292 -326 )
ولما كانت هذه الحياة الإنفرادية مُعرضة للأخطار الروحية، منها التطرف والغرور والملل الذى يؤدى إلى الفتور واليأس، والنكوص عن الدير، هيأ الله باخوم ليؤسس حياة الشركة الرهبانية الحقيقية، كما هى منتشرة الآن فى معظم أديرة العالم المسيحى والتى تدين بنظامها وروحها للكنيسة القبطية.
وُلد باخوم سنة 292 من والدين وثنيين بإسنا فى صعيد مصر. وتثقف بالعلوم المصرية، ولكنه كان يشعر بالنفور من عبادة الأصنام. وفى العشرين من عمره إضطر إلى الإلتحاق بالجيش الرومانى بإمره الامبراطور “مكسيمينوس” لمحاربة جيش “ليسينيوس” و “قسطنطين”.
وفى أثناء تأدية خدماته بالجيش، تأثر بمعملة المسيحيين للجنود، حتى الغرباء منهم بتجردهم وسخائهم فى سبيل الآخرين.
وبعد إنهزام “مكسيمينوس” وخروجه من الجيش، لم يرد الرجوع إلى أهله، بل أخذ يتعلم الديانة المسيحية حتى قبل العماد فى بلدة “شنسيت”. وقصد أن يحيا حياة تليق بالمسيحى. فذهب إلى أحد المتوحّدين المشهورين يُدعى “بلامون”.
وبعد إختيارات كثيرة، قبله كتلميذ له وعاش مع معلمه حياة الصلاة والنسك . وكان من عادة باخوم ان يبتعد فى الصحراء إلى مكان يُدعى “طابنيس”.
فسمع صوتاً من السماء يقول له :طإمكث فى هذا المكان وإبن ديراً لإستقبال كل من يرسلهم الله إليك لخدمته”. وشجعهبلامون على ذلك بعد ان عاش معه سبع سنوات، وكان أول تلميذ إنضم إليه أخاه يوحنا، وتبعه كثيرون.
أدرك باخوم مساوئ الحياة الإنفرادية من ملل وغرور وخطر التطرف فى التقشفات وعدم ممارسة فضيلة المحبة، فجمع تلاميذه فى حياة جماعية. وهكذا ظهرت للمرة الأولى حياة الشركة الرهبانية. وأقام لرهبانه ديراً يجمعهم سوياً، ووضع لهم قانوناً بإرشاد سماوى كُتب باللغتين القبطية واليونانية، ثم تُرجم إلى اللاتينية.
وكان هذا القانون يحدد واجبات كل منهم وواجبهم نحو الرئيس، وينظم لهم حياتهم من جهة الأكل والشرب والملبس والصلاة وقراءة الكتاب المقدس. وكان للشغل اليدوى نصيب وافر، فكان منهم الحدادون والنجارون والخبازون، ومنهم من يقوم بالفلاحة ومنهم بالحياكة.
وكانت قوانين باخوم متسمة بالإعتدال، مراعية حالة كل فرد.
وقد لقى هذا النظام نجاحاً كبيراً، وأسهم فى زيادة عدد الرهبان. فأسس فى حياته تسعة أديرة للرجال وإثنين للنساء، لكل دير رئيس ومدبر ( الربيتة ).
وكان يستعين بتلميذيه الشهيرين “ثاودورس” و “هرسيسيون”، فخلفاه فى الرئاسة.
وعلى منواله قام “شنودة الاتريبى” بتأسيس “الدير الأبيض” بالقرب من أخميم. وكان راهباً مثقفاً يعرف اللغة اليونانية وملماً بالفلسفة اليونانية والشعر. وكان يتحلى بصفات حميدة، منها تقديم العون للمعوزين وتقوى حقيقية. إلا إنه عُرف بصرامته نحو الرهبان والراهبات، متشدداً فى تطبيق القوانين الباخومية، كما عُرف بتمسكه باللغة القبطية، وبمحاربته الشديدة للهراطقة، والوثنيين. وقام شخصياً ومع رهبانه بهدم الكثير من معابدهم. ووصل عدد الرهبان عند الفتح العربى إلى ما يزيد على ثلاثة آلاف راهب.
إنتشرت القوانين الباخومية فى أثيوبيا حيث نجد ترجمة حبشية لقوانين الانبا باخوم، ثم إنتقلت إلى فلسطين وسوريا مع “هيلاريوس”، وإلى الغرب مع “هيرونيموس” و “يوحنا كاسيان”. وإستمد مؤسسو الرهبانيات الغربية فى أنظمتهم الرهبانية من قوانين الأنبا باخوم أبى الشركة.