منارةً ستكونون! إن…-الأب داني قريو السالسي
منارةً ستكونون! إن…
الأب داني قريو السالسي
إن الكنيسة تقدم لنا هذا في الأحد الثالث من الزمن العادي، موضوعاً في غاية الأهمية، موضوعاً كان ومازال ينغّص مضجع الكثيرين. ألا وهو الخصام أوالنزاع. إن أحد أسباب الألام الكبرى هو أن يرى الأهل أولادهم يتشاجرون فيما بينهم، أو يرونهم متخاصمين. ألمٌ يهز مضجعهم. في إحدى زياراتي للغرب ألتقيت مدير أحد الجماعات الرهبانية. وبينما كنا نتحدث سوياً لا حظت مدى تعبه وارهاقه، فاستشفيت من مظهره الخارجي أنّه يحمل عبءاً ثقيلاً على كاهله. فسألته: مالك؟ لقد تركتك السنة الماضية وأنت في أتم الصحة والعافية، م الذي جرى؟ فأجابني قائلاً: إن اثنين من جماعتي لا يتكلامان معاً منذ أكثر من خمسة شهور، يلتقيان في بعض الأحيان وجهاً لوجه ولا يسلم أحدهما على الآخر!.
إنّ الخصام أصبح اليوم المرض الشائع في مجتمعنا. الأولاد في الحي الواحد يتخاصمون، الطلاب في المدارس يتشاجرون، الجار لا يلقي التحية على جاره، الأخ لا يتكلم مع أخيه، الأبن يتجنب أباه، الكنة لا تتمنى الخير لحماتها …. إن القراءة الأولى التي تضعها بين يدينا الكنيسة؛ تُظهر لنا ضخامة هذا الداء، ترينا أنّ هذه الخلافات ليست وليدة اليوم أو البارحة، إنما هي قديمة قدم التاريخ “فقد أخبرني عنكم، أيها الأخوة… أنَّ بينكم مخاصمات”.
إنَّ هذه التحزبات مازالت موجودة إلى اليوم. فنجد أن من الاولاد مَن يقول: أنا من مدرسة الـ… وكأنَّه يقول أنّك لست من مستواي! أو نسمع بعض الأمهات يقلنّ لأولادهن لا تمش مع فلان لأنه ليس من مقامنا! نحن من… أما هو… حتى أنّ زملاء العمل الواحد نجدهم منقسمين هناك من هو مع هذا الحزب ومن مع آخر. كم من المشاجرات حدثت لأن مجموعة تشجع فريقٍا ما ضد فريقٍ آخر! كم من الانقسامات حدثت في الأسرة الواحدة بين الأخ وأخته، بين الأب وابنه بسبب إختلاف في التفكير، لأن الأبن يتبع الأسلوب المعاصر والأب يتبع الأسلوب التقليدي….
“أنا لبولس، وأنا لصخر، وأنا للمسيح” بالتالي لا يوجد الانتماء المشترك، لايوجد ما يوحِّد. إن القديس بولس يقدم الحل على طبق من ذهب لتجاوز هذه الخصامات قائلاً: “أترى المسيح أنقسم؟” إننا للمسيح! إنّه هوالسبب الذي يوحدنا، السبب الذي يجعلنا نتجاوز هذه الخلافات (خلاف وليس إختلاف). إن المسيح هو الذي يجب أن يأخذ كل حيزٍ من تفكيرنا، أن يكون صوب أعيننا، أن يكون الصوت الذي ينبض فيّ فيجعلني أقرر حسب إلهاماته. مع الأسف! اليوم هم قلة الذين يسمعون له! لا أحد يقول أنا ليسوع وكذلك أخي. أنا ليسوع وكذلك أبي، أنا ليسوع وكذلك زميلي… بالتالي أتخلّى عن أفكاري وأتحلّى بأفكار يسوع. أخلع آرائي وألبس آراءه. أترك عنادي وآخذ مبادئه.
يقول القديس بولس: “إنَّ المسيح لم يرسلني لأعمد، بل لأبشر” لم يرسلني لأمنح الأسرار، إنما أرسلني لأعلن هذا الخبر، لأقول للخلق أجمع من هو يسوع. اليوم هناك الكثير من المسيحيين لكنهم لا يعرفون ما يفكر به يسوع! لا يفهمون ماذا يعني أننا ليسوع! إنَّ مشجعي الفريق يعرفون كل شيء عن فريقهم، يعرفون كل تحركاته، يعرفون كل ماضيه مستقبله أحلامه… ونحن؟ هل نعلم كل شيء عن يسوع؟ هل نعرفه؟ هل نعرف أحلامه؟ لماذا نرى اليوم الكثير من الحروب والصراعات، نرى الارهاب والتعذيب هنا وهناك؟ يكفي أن ننظر ما يحدث حولنا في العراق، أو في مصر؟ يكفي أن نتابع الأخبار لمدة خمس دقائق فندرك ما معنى “إنَّ المسيح لم يرسلني لأعمد، بل لأبشر” كل هذه الخصامات والمشاحنات، كل هذا العنف والتعدي موجود لأن الانجيل غير موجود، هذه المعانات موجودة حتى في البيت الواحد، لأنه ليس هناك من يبشر، من يعلن أن المسيح واحد. إنَّ العالم يسير، لكن ليس في الاتجاه الصحيح. يسير وهو تائه لا يعرف من أين أتى ولا إلى أين سيذهب! عالم ضائع ليس لديه مرجعية يرتكز عليها ولا هدفٌ محدد يضعه نصب عينيه.
إنَّ المسيحيين لديهم نقطة مشتركة ألا وهي يسوع المسيح!! وإلا لن يكونوا مسيحيين حقيقيين. اليوم هناك العديد من الناس الذين هم أشبه بزجاجة عطر فرنسي رائعة المظهر وغالية الثمن، لكنها فارغة من الداخل! أي لا تنفع سوى أن تطرح خارجاً، أن ترمى في القمامة. مسيحيون لكن فارغون دون يسوع. بالتالي للتغلب على أي انقسامٍ يجب وضع يسوع في مركز الحياة، في وسط أي شيء. هذه هي النقطة الأولى لهذا الأحد. أما النقطة الثانية فأستقيها من الأنجيل. من حيث ينطلق يسوع ليعلن إنجيله. إن يسوع يبدأ بشارته من الناس البسطاء، العاديين، لا يبدأ من الطبقات العليا، من طبقات المجتمع المرموقة، من الأذكياء والحكماء. يراهن على ما لايراهن عليه أحد! يبدأ مِمّن تقول الناس عنه أنَّه لا خير فيه! مِمّن تقول الناس عنه أنّ هذا لا نفع فيه! أنا أعرفه منذ عشرين عاماً وهو على هذا الحال. “ترك الناصرة وجاءَ كفرناحوم على شواطئ البحر في بلاد زبلون ونفتالي” يترك الناصرة، يترك مدينته التي نشأ فيها ويذهب إلى بلاد الوثنيين، إلى المكان الذي لا يتوقعه أحد. يذهب إلى “الشعب المقيم في الظلمة” يذهب إلى زبلون ونفتالي، يذهب إلى أناس لا يعرفون شيئاً عن الله، يذهب إلى من ينظر بالتباس وشك إلى الله.
هكذا كانت رسالة يسوع، كانت بين الناس الذين هم في نظر العالم لا يفقهون شيئاً، ولا خير فيهم. هكذا كانت كل حياة يسوع فمن مولده إلى مماته كان مع مَن لا يتوقع أن يكون عنده. ولد ولم يقبله أحد (لم يكونوا متوقعين) ، ثم يهرب إلى مصر لأنهم كانوا يريدون قتله ويعيش مع من هم ليسوا من وطنه. يعيش مع الغرباء وفي النهاية يموت بين من يرذلهم المجتمع، يموت بين لصين، إلى النهاية بقي مع الناس الذين لا يعيرهم أحد أي أهتمام. كان مع الناس الذين لا يعيرهم أحد انتباها، والذين يقول عنهم الناس: لماذا تضيع وقتك مع هذا؟ لا جدوى منه. أما يسوع يقول: لا فهناك رجاء في كلِّ إنسان، لأنه يحب، ومن يحب يرى ما لا يرى، ويرجو ما لايرجى فيه. وقف دائماً في صف الانسان وكان له هدف محدد ألا هو خلاص الانسان. هدفه أن يوسع أفق الأنسان أن لا يتركه متقوقعاً على نفسه.
بينما كان سائراً على شاطئ. يرى أخوين، ثم يرى أخوين آخرين. عندما ينظر لا ينظر كما ننظر نحن. نحن ننظر إلى ما يرتدي، وما هي شهاداته، ننظر الى لون حذائه، أو كيف هي تسريحة شعره، أو ما هو نوع الموبايل الذي يقتنيه… إنما يسوع ينظر إلى داخل الشخص، إلى عمق الشخص، ونظرته كلها أمل وإيجابية. في بعض الأحيان ننظر الى الآخر على أنّه صديق أو معاون، فينتابنا شعورٌ ملؤه الدفء والطمأنينة. و في أحيان أخرى، ننظر الى الآخر على أنه منافس أو عدو فينتابنا شعورٌ بالعدوانية شعورٌ يتخبط بين الهجوم والتقوقع. في هذه النظرة نكون مكبلين فقط بالتصرفات الخارجية، فيما نراه لأول وهلة. إن رؤيتنا هذه إن كانت صحيحة أو خاطئة تتحكم في ردة أفعالنا، لأن سلوكياتنا تكون دائماً منسجمة مع هذه النظرة. فمثلاً عندما أفتح الباب وآخر يرميني بثعبانٍ من الكاوتشوك، أفزع وأقفز، ظاناً أنّه ثعبان حقيقيٌ سوف يلسعني ويسبب لي الضرر الكبير. هذه النظرة هي أساس سلوكنا العاطفي. إن يسوع ينظر بتفاؤل وإيجابية، ينظر بثقة ورجاء، يقرأ في قلب كل شخص إمكانية ولادة شخص مميز منه، إمكانية انبعاث كائن جديد منه. له ثقة بالآخر. بالتالي يدعو ، ويقول كلمتين “توبوا” ثم “اتبعاني”. “توبوا” أي غيروا عقليتكم، طريقة تفكيركم. وهذا هو الشي الأصعب في حياتنا. كم من المرات نقول خاصة نحن الكبار: أنا هكذا، أعرف نفسي، أنا هكذا ولن أتغير، أو لقد تعودت على هذا الشيء ومن الصعب التخلي عنه. ليس لدينا حتى الثقة بأنفسنا ولا حتى بالأخرين، فنقول لا تهدر وقتك معه. لن يتبدل شيء. بينما يسوع يؤمن ويثق بأن من هذا الشخص ممكن أن يخرج انسان جديد، ممكن أن نستخرج كنزاً ثميناً، ممكن أن يخرج أنسان متألق وفريد من نوعه. “توبوا” أرتدوا عما كنتم عليه، لا تنساقوا وراء الشعارات الطنانة، والدعايات المغرضة. ثم يردف ويقول: “اتبعني” تعال ورائي. تعلم مني، انظر كيف أنظر للناس، انظر كيف أثق بالآخر. تعلم أن تسير على خطواتي. فستجد أنك ستصبح “صياد بشر”، ستصبح مغناطيساً يجذب الناس، ستجمع حولك من كل الأصناف ولن يجد النزاع اوالخصام سبيلاً إليك، لأن نصب عينيك هو المسيح.
إن هذا الانجيل هو متزامن مع أسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيين فلنتحلّ بنظرات يسوع الايجابية ولنتخلّ عن نظراتنا الانسانية المحضة “توبوا” فنتوب ونتبعه حيث هو فنكون منارة لكل العالم، لأن حياتنا ستسير على هدى المسيح.