stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

عظات الأيام الطقسية

مغامرة الحب… درب القداسة-الأب داني قريو السالسي

1.4kviews

23_04

 

مغامرة الحب… درب القداسة

 

الأب داني قريو السالسي

إننا مازلنا في الفصل الخامس من الانجيل بحسب القديس متى (عظة الجبل). إنّ قراءات هذا الأحد تركزعلى موضوعٍ واحد، ألا وهو القداسة. يختتم النص الانجيل: “كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي كامل” وأيضاً القراءة الأولى: “كونوا قديسين لأني أنا الرب إلهكم قدوس”. وكذلك القراءة الثانية: “أما تعلمون أنكم هيكل الله، وأن روح الله حالٌ فيكم”.

كيف يمكننا أن نكون قديسين في عالم اليوم؟ كيف نكون كاملين (سماويين) في عالمٍ يقصفنا من كل صوب بإغراءاته وملذاته الدنيوية (الأرضية)؟ إننا في الوهلة الأولى نصاب بالذهول إن لم يكن بالغم من هذه التوصية! ليس فقط من الوهلة الأولى…

من هو القدوس؟ إنّها صفة مقتصرة على الله وحده. ونحن نؤكدها ونكررها في نشيد المجد قائلين: “قدوس، قدوس، قدوس، أنت وحدك…” . ونحن؟ كيف يمكننا أن نصبح قديسين؟ كيف يمكننا اليوم أن نشارك الرب هذه الصفة؟ حتى وان كانت دعوتنا هي القداسة، فليس هذا بالأمر السهل، وخاصة حسب ما يعرضه النص الإنجيلي الذي سمعناه اليوم! “من لطمك على خدك، فاعرض له الآخر! من سخرك أن تسير معه ميلاً واحداً، فسر معه ميلين! أحبوا أعداءكم! صلوا لأجل مضطهديكم!”. هل من الممكن تطبيق ذلك خاصة في هذا الزمان وفي هذه الظروف!؟

منذ قديم الزمان كانت الشريعة المتعارف عليها هي شريعة الغاب أو شريعة الأقوى. الأقوى يأخذ ما يحلو له (يتسلبط)، ولا من أحدٍ يردعه لأنه الأقوى. ثم مع تطور الحياة المدنية حلت محل هذا القانون التعسفي شريعة حمو رابي “العين بالعين والسن بالسن” التي يمكن أن نعتبرها اليوم قانوناً بدائياً وبربرياً أيضاً! لكن في الحقيقية كان هذا القانون لحماية الناس، ولخلق مستوى من التوازن في الانتقام. أي من جرحني، لا يمكنني أن أقطع رأسه! أي أن من سرق دراجتي، لا يمكنني أن أحرق بيته! بإمكاني أو بإمكان المحكمة أن ترد له نفس الألم الذي تكبدته، نفس الضرر الذي أصابني. بالتالي كان ذلك معياراً للتوازن. لأنّ قيمة العين أثمن من قيمة السن. يمكنني أن أتابع حياتي بسنٍ ناقص من فكي لكن أن أتابع حياتي بعين واحدة ليس نفس الشيء. هذه القوانين والشرائع كانت تضمن نوعا من الامان والاستقرار في المدينة، لضمان العدل في المجتمع المدني. ونوعاً ما القوانين القضائية ماهي إلا تدرج وتطور لهذا القانون وهذا المنطق.

إن يسوع لا يكتفي بهذا المنطق، لا يرتضي بنمط حياة ارضيٍ بحت. إنّما يسمو فوقه، ويحاول أن يضفي عليه نوعاً من الرقي، يحاول أن يعطي نكهة جديدة لحياتنا، يحاول أن يطعِّم تصرفاتنا بالروح الإنجيلية. “سمعتم أنّه قيل … أما أنا فأقول لكم”. لهذا يقول: “إن إحببتم من يحبكم، فأي أجرٍ لكم؟ أليس العشارون يفعلون ذلك؟ وإن سلمتم على إخوانكم وحدهم، فأي زيادة لكم؟ أوليس الوثنيون يفعلون ذلك؟” إنَّ يسوع يريد أن يعطينا تعليماً جديداً، يبتكر نمط حياة لنا لنكون كاملين كما أنّ أبانا السماوي كامل. رغب أن نكون كاملين. يقول: لا تكن مسيّرا ممن حولك، فقط صاحب رد فعل، إنّما كن فاعلاً، وصاحب قرار. أي قراري لا يعتمد على الظروف المحيطة. أنا أقرر بنزاهة.

إن كلمة قدوس أو قديس، تعني المميز، المختلف، البار غير المتلطخ. يروي الأب جان باول اليسوعي في أحد كتبه عن حادثة من هذا النوع، قائلاً: مرة ذهب لزيارة شقيقه في الولايات المتحدة، ونزل على عادته ليشتري الصحيفة اليومية من الكشك، ويفاجئ بأن أحد الشباب المتهورين، يأخذ الصحيفة من البائع قاذفاً النقود ومنهالاً عليه بالشتائم. استغرب الأب من هذا المشهد ولكنه أخذ صحيفته ومضى. وصدف أن في اليوم الثاني حدث نفس المشهد، البائع يعطي الصحيفة بكل لباقة وأدب ولكن هذا الشاب يكرر تصرفه الهمجي. استغرب الأب! وفي اليوم الثالث حضر الأب لكن مبكراً نصف ساعة لكي يرى المشهد بأكمله، لأنه كان يتساءل عن السبب الذي يدفع البائع لمعاملة هذا الشاب البربري بهذا اللطف. وعندما وصل الشاب انسل الأب وراءه وبدأ يراقب. وتكرر المشهد من جديد. وقاحة وفظاظة من جهة الشاب، وأدب ولباقة من جهة البائع. وعندما ذهب الشاب، سأل الأب البائع، قائلاً له: لقد رأيت هذا المشهد يومين على التوالي، واليوم تعمدت المجيء باكراً لأرى لماذا تعامل هذا الشاب بكل هذه اللباقة؟ هل يهددك؟ أم هو قريبٌ لك؟ أعذرني على هذا الفضول لكني أستاذ في علم النفس وأيضاً كاهن، يمكن أن نتعاون. فابتسم البائع وقال: أنت أستاذ علم النفس وكاهن، وتسألني؟ فأجابه لأني كذلك أسألك. فرد عليه قائلاً: أنا لا أسمح لأحد أن يقرر عني متى أغضب ومتى أهدأ، أنا سيد نفسي. وكأنه يقول أنا فاعل، أنا لست آلة أتوماتيكية، فعل ورد فعل! أنا لا أسمح للظروف أو لأي شخصٍ كان أن يقرر عني ماذا علي أن أفعل. أنا قررت أن أحب. وأنا سعيد بهذا.

إن الطبيعة البشرية تُشبَّه بكأس الماء النقي، العذب. أو بفنجان القهوة العربية ذي النكهة الأصيلة. وأيُ إهانة، أي خلاف يشبه الملعقة. فعندما نصطدم مع الآخر (لطمك على خدك…) تأتي الملعقة وتدور في الكأس أو الفنجان فإن كنت فنجان قهوة ستدور الملعقة وسيرتفع التفل إلى السطح بالتالي سيكون المذاق غير محبذ. أما إن كنت كأس ماء فحتى ولو أتت الملعقة ودارت لن يتغير شيء، وسيبقى المذاق عذباً، لأني نظيف، لأني نقي من الداخل، لن يخرج من داخلي إلا ما هو نقي. كثيراً من المرات نحن نغضب ونثور ليس بسبب الإهانة إنما لأن الاهانة (الملعقة) حرّكت ماكان راكداً في أعماقنا فتأتي تصرفاتنا سلبية بعيدة كل البعد عن القداسة.

يوحنا الإنجيلي يقول ويكرر مراراً أننا في العالم لكننا لسنا من العالم! المسيحي هو المختلف عن الباقي، لا يسير مع التيار، لا يتمايل مع كل هبة ريح. إنَّ مسيرة القداسة وإن كانت مسيرة فردية فهي تعاش مع الآخرين. لأنه من دون العلاقة مع الآخر لا سبيل للقيام بهذه الرحلة، رحلة القداسة.

الحياة المسيحية هي حياة الأقوياء، حياة المغامرة. عندما يقول يسوع “من لطمك على خدك الأيمن، فاعرض له الآخر” لايقصد أن تكون خنوعا، مذلولا مكسور الجناح (ملطشة لكل شخص). فيسوع نفسه في أصعب موقفٍ له لم يكن ولم يقبل أن يُهان “فلما قال يسوع هذا الكلام، لطمه واحدٌ من الحرسكان بجانبه وقال له: أهكذا تجيب عظيم الكهنة؟ أجابه يسوع: إن كنت أسأت في الكلام، فبين الإساءة. وإن كنت أحسنتُ في الكلام، فلماذا تضربني؟” كان أكثر إنسانٍ جريء وشجاع لم يكن أبداً جباناً، يكفي أن نذكر مواجهاته مع الكتبة والفريسيين. ولم يقبل أبداً بالظلم، حتى أنّه منذ بدء بشارته قدّم مشروعه الخلاصي “جئت لأفرّج عن المظلومين، وأطلق سراح المأسورين… وأعلن سنة رضى”. القداسة ليست أن أكون محط سخرية الجميع، وليس كل من لطمني على خدي الأيمن أعطيه الأيسر، إنما أعطيه الآخر الذي ينقصه، اعطيه الآخر الذي بحاجة إليه، أعطيه ماهو محروم منه، وبحاجة إليه (عطف، حنان، تربية، توبيخ، مادة…).

إنّ كلام يسوع ليس دعوة إلى الجبن والذل إنما إلى المحبة (الوداعة) التي تقهر الشر بالخير. أذكر جيداً حادثة رواها الأب هنري بولاد عن فتاة من جنوب لبنان اسمها مجدولين. تقول مجدولين: كنت أتعلم في مدرسة القرية في منطقة كلّها من الدروز (شيعة من الاسلام) كنت الوحيدة المسيحية ليس فقط في الصف إنّما في كل المدرسة، وكان لها صديقة أحبتها كثيراً، وفي يومٍ من الأيام أكتشفت صديقتها أنها مسيحية. فبدأت القصة، وتغيرت معاملتها لها، ولم تعد تسلم عليها ولا حتى تتحدث معها، كانت من أعز صديقاتها، وكانتا تجلسان ساعات وساعات في لقاءات حميمية، استمرت صداقتهما ست سنوات، عاشتا ذكريات معاً لاتنسى، ولكن بعد الإكتشاف أنها من دينٍ آخر، ضاع كلُّ شيء. وفي يومٍ من الأيام ذهبت صديقة مجدولين إلى مدير المدرسة وعيونها مغرورقة بالدموع. قائلةً: مجدولين، مجدولين، وهي تبكي. فسألها المدير: ما الخطب، فلم تستطع الكلام لأنها كانت تشهق وتقول: مجدولين، مجدولين. فاستدعيت مجدولين إلى الإدارة. وعندما وصلت رأت صديقتها ودموعها على خديها ووجهها محمرٌ وكأن أحدهم قد صفعها صفعات مريرة. سألها المدير ماذا فعلت؟ فأجابته: لا شيء. فأعاد السؤال مرة أخرى لكن بنبرة أشد، وأقسى مهدداً إياها بالضرب. فكررت وقالت: ثق يا معلم أنّي لم أعاملها بالسوء أبداً. فغضب وضربني على وجهي ليس لأنه لم يصدقني لأنه كان سيغمى على الصديقة لأنها لم تعد تستطيع أن تتمالك نفسها. فأخرجها وانتظر حتى هدأت وسألها: قولي لي ماذا فعلت لك مجدولين؟ فقالت: أنا أكرهها… أكرهها بشدة… وهي ماتزال تحبني وتبدي لي كل الود. فاستدعى مجدولين من جديد. وكان معها نائبه قائلاً: لماذا لم تقولي لي؟ فأجابته: قلت لك لم أعاملها أبداً بالسوء! اليوم مجدولين هي رئيسة الراهبات، وصديقتها الدرزية هي مديرة المدرسة وقد أعتنقت المسيحية.

إنَّ المحبة هي أقوى من أقوى سلاح، إنّها أقوى من الموت. إنّ يسوع يريدنا أن نكون قديسين. لهذا يعرض علينا تعليماً يمكن أن يكون بعيداً عن حياتنا اليومية. لأننا تعودنا أن نعيش الروتين الحياة السهلة (المملة) بينما هو يريدنا أن نعيش حياة السماء، حياة المغامرة. يحلم يوماً بأن نشاركه قداسته، بأن نقاسمه حياته. لهذا يطلب منّا أن نتخلى عن الأنا ونتحلى بالمحبة فنصبح كالزجاج شفافين، نتوهج بنور محبته، فنشع بريق مجده السماوي ونحن على الأرض.

إخوتي الأحباء، اليوم كثيرٌ من الناس يعيشون الروتين، يعيشون الملل. يعيشون في رفاهية، لهذا الخمول صديقهم، والكآبة حليفتهم. يخافون من المغامرة، يخافون من خوض الصعاب. فمثلاً: إن جاءنا نبأ أننا سنلعب مباراة كرة قدم مع فريق المدرسة المجاورة. سنستعد وسنلعب، ويمكن جداً أن نفوز، بالتالي سنفرح. لكن إن جاءنا نبأ قائلاً: أننا في نهاية العام سنلعب ضد فريق البرازيل! (إحتمال كبير أننا سنخسر) لكن بعد مرور 20 سنة سنقول لأولادنا أننا في أحد الأيام لعبنا ضد منتخب البرازيل. لنا الشرف أننا واجهنا فريقاً عريقاً مثلهم. إن الرب يسوع يركز على هذا النوع من الخبرات. يطمح لنا في الأمور العليا. تعاليمه أحياناً متطلبة، لكنها في غاية الروعة، لأنها غير عادية، لأنها ليست روتينية. خبرات مدهشة لأنها صعبة. يريدنا أن نشعر بفرح تخطي هذه الصعوبات، بفرح تجاوز العادات والتقاليد. يسوع لا يطلب المستحيل، إنما يطلب ماهو مستطاع. يبقى دوري أنا، أن أثق (أؤمن) بكلامه وأنطلق. أن أتحلى بالجرأة والشجاعة لأني عالمٌ أني لست وحدي، لأني عالمٌ أنه فيَّ وأنا فيه. ألست هيكله؟ “… انكم هيكل الله، وأن روح الله حالٌ فيكم” فهو الذي يعمل فيّ، يكفي أن أطلب منه أن يرافقني في رحلة القداسة هذه، وسأنعم بالسلام والطمأنينة مهما جرى، لأنه فيّ وأنا فيه.