ما وراء الحدث: دعوة للتفكير انطلاقًا من “الراهبة اللي بتغني”
لا يكفي أن نحط الزمني، لكي نرتفع إلى فئة الأبدي. لا يكفي لأن نحط الطبيعة لكي نرتفع إلى فئة النعمة
أعمل في مجال الإعلام منذ نحو 9 سنوات وأتابع الأخبار منذ ضعف ذلك تقريبًا وأعرف كيف أن الأخبار تُولد وتموت بسرعة تكاد تكون مخيفة. وقد كرس اليوم اثنان من كُتابنا مقالتين جميلتين لموضوع الراهبة الإيطالية كريستينا سكوتشا، وكان في رأيهما من رحابة الصدر والدعوة إلى التفكير أكثر مما يكفي. ما أود أن أقوله هنا لا يريد أن يكون كلمة عن الأخت كريستينا، بل دعوة للتفكير مليًا بنوعية حضورنا المسيحي، بل أكثر بمعنى فهمنا للمسيحية.
فقد آسفني تهويل البعض فورًا. سـ “أدبلج” بعض التعليقات التي رأيتها: “يا للعار، الراهبة تُدنس تكرسها وتجعل الحياة الرهبانية مضحَكة أمام عيون العالم”، “يؤسفني الانحطاط الذي وصلنا إليه، فبدل أن تصلي، الراهبات تغني الآن!”، “قريبًا ستقع في فخ شيطان الشهرة، فلنصل لأجلها”، أو ببساطة “روحي انضبي يا بنت… بل يا إخت”…
الحدث لفت انتباه حتى المغنية الرئيسية لأغنية “No one”، أليشا كييز التي كتبت على تويتر: “هذا ما أسميه قوة جميلة وصافية! غني، أخت كريستنا!”، بينما ووبي كولدبرغ، ممثلة “Sister act” فقد كتبت: “ما يلزمك عندما تريد أن تتذوق ’سيستر آكت‘”. (يمكنكم أن تروا صور التويت على صفحتنا على الفايسبوك: www.facebook.com/zenitarabic). كما وجذب أكثر من 20 مليون زيارة إلى موقع The Voice على يوتيوب.
هذا قليل من كثيرٍ من التعليقات السلبية مبدأً. بينما كان هناك الكثير من التعليقات الإيجابية أيضًا. كما أشرت، محط انتباهي لن يكون الراهبة أو الحدث…
كيف يمكننا أن نقول بأننا ندين بـ “دين التجسد” إذا ما حكمنا مسبقًا على كل ما هو تجسد وتجسيد جمالي لإيماننا؟
يتوارد إلى ذهني جواب مضحك، ساخر ولكن عميق جدًا للاهوتي الكبير كارل رانر (Karl Rahner). في كتاب-مقابلة، أخبر اللاهوتي الشهير الصحفي بأنه، عندما كان يقيم في روما، كان يتمشى مساءً ويأكل البوظة عند “جولِتًي”. ولدى عجب الصحفي على هذه “العادة”، نظر إليه رانر بتعجب أكبر وقال بروحه الفكاهي: “ماذا؟ الله، كما تعرف، لم يخلق الأشياء الجميلة للأشرار فقط”!
القديس بولس يعلمنا بأن كل شيء هو لنا، ونحن للمسيح والمسيح لله الآب (راجع 1 كور 3، 22). كل شيء لنا، وما من شيء صالح أو طالح بحد ذاته، بل الاستعمال الذي نقوم به. فالخليقة التي خرجت من يدي الله – بحسب سفر التكوين 1، وسائر الكتاب المقدس – ليست قذرة أو شريرة، بل كما يخبرنا الكتاب، ينظر الله إلى خليقته ويردد: “ورأى أن ذلك حسن” (طوف بالعبرية كلمة غنية تعني بالوقت عينه: جيد وجميل)…
وعليه، لا يمكن للمسيحي أن يأخذ موقف ترهيب وتقذير وحكم مسبق سلبي على كل ما هو زمني، أرضي، ملموس، متجسد… فهذا يأتي من عكر الفلسفات الغنوصية والمانية والنيوأفلاطونية، لا من جوهر الإنجيل.
الإنجيل يدعونا إلى التمييز: “من ثمارهم تعرفونهم”، يدعونا إلى النظر إلى أين تقودنا أهواؤنا ورغباتنا، الإنجيل لا ينظر إلى المظاهر، بل يدعونا للتمثل بالله الذي ينظر إلى القلوب ويفحص الكلى (النوايا والأفكار الباطنة). والإنجيل يدعونا أيضًا لشجاعة الخروج: “إذهبوا وبشروا كل الأمم”… والسيد يدعونا لكي نستعمل الوزنات الموكلة إلينا، لا إلى أن ندفنها في تراب الخوف والإدانة. لا نعرف كيف ستنتهي قصة الراهبة، ولكن هناك أمر أكيد: ما فعلته، أفضل بكثير مما يفعله نقادها (بانتقادهم لها).
أود أن أختم هذه الدعوة للتفكير بأهمية “التجسد” بكلمات نبوية من الشاعر الفرنسي شارل بيغي (Charles Péguy) القائل: “من يبتعد عن العالم ومن يظن أنه يُحلق لأنه يحط بالعالم، لا يرتفع حقًا… لا يكفي أن نحط الزمني، لكي نرتفع إلى فئة الأبدي. لا يكفي لأن نحط الطبيعة لكي نرتفع إلى فئة النعمة… لا يكفي أن نحط العالم لكي نرتفع إلى فئة الله!”
ويضيف منتقدًا من يظن أنه نديم الخالق لأنه عدو الخليقة: “بما أن ليس لديهم قوة (ونعمة) أن يكونوا من الطبيعة، يظنون أنهم أبناء النعمة… ولأنهم لا يتحلون بشجاعة أن يكونوا من العالم، يظنون أنهم خاصة الله. وبما أنهم لا يتمتعون بشجاعة الانضواء تحت أحد أحزاب البشر، يظنون أنهم ينتمون إلى حزب الله… ولأنهم لا يحبون أحدًا يظنون أنهم يحبون الله”.