اللاهوت الأدبي الحديث – الأب د. أنطون فرنسيس كابس
يتفق اللاهوت الأدبي القديم والحديث على أن الله غاية جميع الأشياء، وبالتالي يبحث هذا العلم عما يجب على الإنسان فعله ليتجه إلى غايته القصوى أي الله. على أنهما يختلفان فيما بينهما في الأسلوب التعليمي، فنجد أن اللاهوت الأدبي القديم قد جسّد التعاليم الأدبية في عدة مقالات مثل الحق والعدل، والأفعال البشرية، والوصايا، والأسرار؛ وكان يركز على التحذير من الخطيئة مستنداً على مبادئ وفتاوى أدبية مما أدى إلى إصدار أحكام على الخطأة. أما اللاهوت الأدبي الحديث فهو يدعو الإنسان ليعيش حريته لأنها ركن أساسي لاتجاهه إلى الله الغاية القصوى؛ هذه الدعوة للحرية مؤسسة على الحب بوصفه شامل للشريعة كلها، وهذا واضح من كلام السيد المسيح: “أحبب الرب إلهك بكل قلبك وكل نفسك وكل ذهنك. تلك هي الوصية الكبرى والأولى. والثانية مثلها: أحبب قريبك حبك لنفسك. بهاتين الوصيتين ترتبط الشريعة كلها والأنبياء” (مت37:22-40). ويسوع في دعوته لنا يركز على حرية الإنسان المؤسسة على الحب والمرتبطة بحفظ الوصايا: “إذا كنتم تحبوني، حفظتم وصاياي… من تلقى وصاياي وحفظها فذاك الذي يحبني والذي يحبني يحبه أبي وأنا أيضاً أحبه فأظهر له نفسي” (يو15:14، 21).
ينطلق اللاهوت الأدبي الحديث من كلام المسيح نفسه ويدقق في أسلوبه التعليمي على الوصية العظمى أي حب الله وحب القريب، وذلك لأنها تحتوي على المواضيع التي تلعب دوراً كبيراً في حياة الإنسان والتي يحاول اللاهوت الأدبي تقديمها للمؤمنين بطريقة تناسب العصر الذي يعيشون فيه. فحب الله وحب القريب يحتضنان الإنسان في مسيرته وخاصة في اتجاهه إلى الغاية القصوى، كما لابد من إظهار الحب بطريقة فعلية من خلال أفعال وتصرفات الإنسان. وهنا يتضح أن حفظ الوصايا واكتساب صداقة المسيح ومحاولاتنا لنصبح أبناء الله واتحادنا بإخوتنا أعضاء جسد المسيح يستند جوهرياً على معايشة الحب.
إن هذه الانطلاقة الحديثة والمؤسسة على الحب تجعلنا ندرك أن اللاهوت الأدبي مادة واسعة جداً، فهي تتضمن الأفعال والتصرفات الإنسانية وتوجيهها إلى الله (لاهوت أدبي بالمعنى الحصري)، وتشمل الجانب الروحي الذي يساعد على كمال أفعالنا (اللاهوت الروحي) وتحتضن أيضاً اللاهوت الرعوي الذي يوضح واجبات رعاة النفوس تجاه المؤمنين. كل هذا يصل بنا إلى نتيجة هامة وهي ضرورة تقدم وتطور اللاهوت الأدبي كما يقول المجمع: “ويجب تجديد سائر العلوم اللاهوتية، بربطها بصورة أكثر حيوية، بسر المسيح وبتاريخ الخلاص، وبذل عناية خاصة في الوصول بعلم اللاهوت الأدبي إلى كماله” (مرسوم في التكوين رقم6).
في جهة أخرى يدرك اللاهوت الأدبي الحديث أن الإنسان يحاول الإجابة على دعوة الحب الموجهة إليه من الله، وهذا من خلال احتكاكه بالمجتمع والعالم بما فيهما من ظروف اجتماعية ونفسية تؤثر على مسيرته. لذلك يهتم اللاهوت الأدبي في عالم اليوم بالعلوم الإنسانية مثل علم الإنسان وعلم النفس وعلم الاجتماع ليتفهم عمق الإنسان بصورة أفضل، وبالتالي ليقوده إلى الله بطريقة تناسب واقعه الإنساني.
في هذه الانطلاقة الحديثة، يتغذى اللاهوت الأدبي ويستقي مادته من عدة ينابيع أولها الكتاب المقدس ثم الشرائع الطبيعية وبعد ذلك تقليد الآباء والرسل وتعليم الكنيسة والمجامع، وأيضاً تعليم الباباوات المكتوب والمذاع والذي يخص عقائد إيمانية أو حقائق أدبية. كما يعتبر اللاهوت العقائدي أيضاً ينبوعاً للاهوت الأدبي، لأن اللاهوتيين بنظرياتهم اللاهوتية، من جهة يساعدون السلطة الكنسية على تعميق العقيدة على ضوء الكتاب المقدس والتقليد، ومن جهة أخرى يعملون على توصيل ما يحتاجه المؤمنون إلى الرؤساء الكنسيين. وبالتالي تستطيع السلطة الكنسية من خلال هذه المساعدة أن تظهر المباديء التي تساند المؤمنين في مواجهة المشاكل الأدبية.
إن الانطلاقة الحديثة للاهوت الأدبي تظهر بوضوح في طريقة التعليم، فبالاستناد على الكتاب المقدس يركز اللاهوت الأدبي الحديث على دعوة الإنسان التي تكتسب سموها وقدسيتها من مبادرة الله. فالوحي يكشف لنا عن الله الخالق والفعّال والمحب، وهذا واضح في الكتاب المقدس عندما يحدثنا عن الله وأعماله العظيمة مع الإنسان منذ بداية الخليقة، ويوضح لنا كيف خلق الله الإنسان بالحب وعندما تنكر الإنسان لهذا الحب تجسد المسيح حباً بالإنسان وتمم الفداء. كما يؤكد لنا الكتاب المقدس أن دعوة الله المحب مفتوحة دائماً أمام الإنسان. لذلك يجب مراعاة التصرفات البشرية وتوجيهها في إطار الحب إذا أردنا أن نجاوب على دعوة الحب هذه.
نتيجة لهذا التجديد بدأ اللاهوت الأدبي يطور في أسلوبه ومواضيعه، وبدأ يأخذ تقسيماً جديداً يختلف عما كان عليه في العصور السابقة. وبالفعل ينقسم اللاهوت الأدبي حالياً إلى قسمين: أولاً- لاهوت أدبي أساسي ويشرح المبادئ العامة التي تقود الإنسان إلى الغاية القصوى. ثانياً- لاهوت أدبي خاص وهو يعلم ما يجب على الإنسان فعله أو تجنبه في حالات خاصة، وبمعنى آخر يظهر واجبات الإنسان والوسائل التي يستعملها ليصل إلى غايته القصوى.)يتفق اللاهوتيون على تقسيم اللاهوت الأدبي (أساسي- خاص)، ولكن توجد عدة مناهج تختلف فيما بينها شكلياً وتتفق معاً في المضمون. في هذا المقال حاولنا اختيار المنهج الأكثر شمولية(
اللاهوت الأدبي الأساسي ينقسم بدوره إلى جزأين.
الجزء الأول يركز على المبادرة الإلهية بعنوان “الله الذي يدعو” ويعالج عدة مواضيع:
1- دعوة الله لحياة معه.
2- دعوة الله من خلال الشريعة.
3- دعوة الله من خلال الضمير
أما الجزء الثاني بعنوان “الإنسان المدعو”، ويركز على تصرفات الإنسان مظهراً كيف يجاوب الإنسان على مبادرة الله. وهذا من خلال عدة نقاط:
1- الإنسان المخلوق والتجاوب على الدعوة بالإرادة الحرة.
2- الإنسان كائن روحاني- جسماني وكائن حي في العالم.
3- الفضيلة.
4- كلمة “نعم” من الإنسان في الفعل الجيد أدبياً.
5- كلمة “لا” والخطيئة.
اللاهوت الأدبي الخاص يتجزأ أيضاً إلى جزأين:
الجزء الأول بعنوان “علاقة المسيحي بالله” ويدخلنا في دراسة مواضيع في غاية الأهمية:
1- الفضائل الإلهية (الإيمان- الرجاء- المحبة).
2- عبادة الله (الأسرار بوجه عام).
3- التوبة وسر المصالحة.
أما الجزء الثاني فبعنوان “علاقة المسيحي بالقريب”، ويعالج عدة قضايا تشمل تصرفات الإنسان الروحية والأدبية والاجتماعية:
1- الحب والعدالة.
2- الجماعات الأساسية (الزواج والعائلة- الكنيسة- الدولة).
3- المسؤولية تجاه خلاص القريب.
4- المسئولية تجاه الخيرات الشخصية الروحية للقريب.
5- المسئولية تجاه الصحة والحياة الجسدية.
6- المسئولية تجاه الجانب الاقتصادي- الاجتماعي.
ربما يقول قائل إن هذا المنهج ينقصه عنصر في غاية الأهمية وهو مسؤولية المسيحي تجاه ذاته. ولكن إذا دققنا النظر جيداً نجد أن اللاهوت الأدبي الأساسي يوجه مواضيعه لكل إنسان بطريقة فردية تجعل عنده الإمكانية أن يؤسس مسيرته الحياتية على مبادئ أدبية واضحة؛ كما أن اللاهوت الأدبي الخاص لا يضع مسئولية المسيحي تجاه ذاته كعنصر مستقل، ولكنه يتحدث عنه بطريقة ضمنية لأن من يريد أن يدخل في علاقة مع الله ومع القريب لابد وأن يهيئ نفسه ويتحمل المسئولية تجاه ذاته.
في ختام مقالنا هذا نعود إلى نص المجمع الفاتيكاني الثاني، فنجد أنه يركز على العناية باللاهوت الأدبي ويلح على: “أن يؤدي العرض العلمي لهذه المادة، متشبعاً أكثر بتعليم الكتاب المقدس، إلى توضيح سمو دعوة المؤمنين في المسيح والتزامهم بحمل ثماره في المحبة لحياة العالم” (مرسوم في التكوين الكهنوتي رقم 16). من هذا النص نتساءل هل يحقق التقسيم الحديث للاهوت الأدبي رغبة المجمع في تجديد هذه المادة بالمعنى الذي يقصده المجمع؟ إن الإجابة على هذا التساؤل سوف تتضح لنا عندما نعرض شرح المواضيع والعناصر المختلفة والمذكورة سابقاً. وذلك من خلال عدة مقالات لاحقة.