المعنى الحرفي وقراءة الإيمان
كثيراً ما نجد بين أيدينا نصوصاً مكتوبة، نحاول أن نقرأها ونفهمها. وكلما كانت أصولها قريبة من زمننا، كان استيعابنا لها أسهل وأعمق. لأننا نستطيع بسهولة أكبر إعادة بناء السياقات المختلفة للنص، سواء السياق اللغوي، التاريخي أو الاجتماعي… أو بمعنى آخر، يسهل علينا تخيل عالم النص. وكلما بعدت أصول النص عن زمننا، فهناك عوامل أخرى تؤثر على فهمنا للمعنى الحرفي للنص. فمثلاً استعمال مصطلح ما قد تغير مع مرور الزمن. على سبيل المثال كلمة rAB العبرية، كانت تستعمل فقط بمعنى بئر، ومع مرور الزمن استعمل العبرانيون الآبار الفارغة كمكان لحبس الأشخاص المذنبين، حتى أن الكلمة أصبحت تستعمل أيضًا بمعنى السجن (تك 37: 24؛ 40: 15).
هناك أيضًا عوامل أخرى يجب أخذها في الاعتبار عند دراسة النص، مثل طريقة تناقل النص من زمن إلى آخر، وأيضًا إعادة التحرير والنسخ…إلى آخره. يمكن تطبيق هذه الدراسات على كل النصوص التي تفصلنا عن عالمها مسافة زمنية كبيرة. وحيث إن أصول نصوص الكتاب المقدس تبعد كثيرًا عنّا من الناحية الزمنية، لذا قد يكون من الضروري عمل هذا النوع من الدراسات عليها، والتي نسميها بصفة عامة الدراسات النقدية. يمكن أن يقوم بهذه الدراسات أي دارس سواء أكان مؤمنًا أم غير مؤمن. يكفي أن يكون على دراية باللغات الأصلية، وأيضًا بالتاريخ. ولكن لا تحل هذه الدراسات محل نوع آخر من القراءة لنصوص الكتاب المقدس، هذه القراءة هي حتمية، وتخصّنا نحن المدعوين ليكونوا قديسين (رو1: 7) ألا وهي قراءة الإيمان، أي القراءة التي تفترض فعل إيمان مسبق، وهي ما يمكن تسميته لاهوت النص. وقراءة الإيمان هذه لا تبحث عن براهين لإيمانها، ولكن تبحث عن فهم أعمق لموضوعات إيمانها. إذاً لا يمكن بأي حال من الأحوال التوقّف في دراسة الكتاب المقدس على التحليل النقدي بمختلف أنواعه، ولكن لابد من أن نتبعه بقراءة الإيمان، وفي هذه الحالة تكون قراءة أعمق وأكثر فهمًا للنص المقدس.
الكتابات اليوحناوية
المقصود بالكتابات اليوحناوية هي الكتابات التي يمكن فيها تمييز بعض الخواص، التي يمكن نسبتها إلى نفس الجماعة أو المدرسة التي ينتمي إليها إنجيل يوحنا، وهي إنجيل ورسائل يوحنا. وقد حاول التقليد أن يميز بعض الخواص المشتركة بين الإنجيل وسفر الرؤيا، حتى وإن كان من الصعب تحديد نوعية العلاقة بين الإنجيل والرسائل من جهة، وسفر الرؤيا من جهة أخرى. يختلف الأسلوب الأدبي الرؤيوي تمامًا عن الأسلوب الأدبي الخاص بالإنجيل والرسائل. فالإنجيل والرسائل قليلاً ما يلجأون إلى موضوعات رؤيوية، وإذا لجأوا إليها فإنهم يوظّفونها بطريقة مختلفة، مثال ذلك صورة “ابن الإنسان” (يو1 : 51؛ 3 : 13-14)؛ وأيضًا مصطلح “اليوم الأخير” (يو 6 : 39، 40، 44، 54؛ 7 : 27).
كذلك هناك اختلاف في الأسلوب اللغوي، فبينما اللغة اليونانية المستعملة في الإنجيل والرسائل لغة شعبية- مع أنها صحيحة من ناحية قواعد اللغة- إلاّ أن سفر الرؤيا يستعمل تركيبات لغوية قد تبدو غير مطابقة لقواعد اللغة المتعارف عليها (رؤ1 : 4) وفيها يتبع الضمير المرفوع حرف الجر. أما بالنسبة للإنجيل والرسائل، فحتى وإن كان النوع الأدبي بينهما مختلف، لكن من السهل افتراض أنهما يعودان إلى الجماعة نفسها أو العقلية نفسها. فالمصطلحات المستخدمة، والأسلوب الأدبي وحتى اللاهوت يحملوننا على القبول بأن جذورهما تمتد إلى نفس الجماعة والعقلية. وبدون قراءتها في ضوء معرفتنا بالإنجيل–أعني إنجيل القديس يوحنا- تبدو رسائل يوحنا كلغز غير واضح. فموضوعاتها الكبرى مثل الحث على الإيمان، والشهادة تجد مرجعيتها في الإنجيل.
الفصل الأول: إنجيل يوحنا في التاريخ
أُعطيت كثير من الصفات على مرّ العصور للإنجيل الرابع، ولكن أجملها هي للقديس إكليمنضس الإسكندري فهو يدعوه “…. Iwa,nnhn pneumatiko.n poih/sai euvagge,lion الإنجيل الروحي”. وكثير من الألقاب أُعطيت أيضًا للإنجيلي ذاته: “الرسول”، “ابن الثلاث أمهات”، “تلميذ الرب”، “الشاهد”، “المعلم”، “الشيخ”، “اللاهوتي”، ولكن أجملها ” evpisth,qios المتكئ على الصدر” أي على صدر المعلم (يو13 : 25؛ 21 : 20). في هذا الفصل سوف نلقي نظرة سريعة على الشهادات التي للإنجيل والإنجيلي في كتابات القرون الأولى للمسيحية، وكذلك كتابات ما بعد القرون الأولى حتى نصل في النهاية إلى الدراسات التي تمت حوله في القرنين التاسع عشر والعشرين.
1) القرون الأولى للمسيحية:
في القرون الأولى نجد كثيرًا من الأخبار التي يتحدث عنها بعضهم بصورة مباشرة عن يوحنا الرسول أحد الاثنى عشر وعن الإنجيل، ويخبرنا بعضهم عن الإنجيل بصورة غير مباشرة عن طريق الاستشهادات من النص. – بابيّا أسقف جيرابولي في بحثه عن أقوال الرب يقول– كما يخبرنا أوسابيوس القيصري- : “كنت أذهب للبحث عن كلمات الشيوخ، ماذا قال أندراوس، أو بطرس، أو فيلبس، أو توما، أو يعقوب، أو يوحنا، أو متى أو أي تلميذ آخر من تلاميذ الرب، وماذا يقول أرستيون والشيخ يوحنا تلميذ الرب”.
هل يقصد بابيّا هنا وجود شخصين مختلفين باسم يوحنا، أم يقصد شخصا واحدًا؟ الأرجح أنه يقصد شخصًا واحدًا باسم يوحنا الشيخ وتلميذ الرب. – قانون موراتوري يخبرنا أن تلاميذ يوحنا وأساقفته طلبوا منه الكتابة، فطلب يوحنا منهم الصوم ثلاثة أيام، فأخبرهم الوحي بضرورة أن يكتب يوحنا كتابه. – القديس إيريناوس يخبرنا في كتابه الشهير “ضد الهرطقات” عن فترة وجود يوحنا في آسيا: “بعد ذلك، أيضاً يوحنا، تلميذ الرب الذي اتكأ على صدره، كتب الإنجيل عندما كان يعيش في أفسس في آسيا”. ويخبرنا إيريناوس أيضًا كيف كان يوحنا محاطاً بالشيوخ في أفسس، مما يضمن صحة ما كُتب. – الافتتاحيات ضد مرقيون (160 – 180م)، وهي مقدمات كانت توضع كافتتاحيات للأناجيل، ويعتقد أنها كانت للرد على مرقيون. تخبرنا هذه الافتتاحيات عن كتابة يوحنا لسفر الرؤيا وهو في جزيرة بطمس، ثم بعد ذلك الإنجيل في آسيا. – تعتبر المخطوطات P52, P66, P75 من أقدم مخطوطات العهد الجديد، تعود إلى بدايات القرن الثاني الميلادي، تحمل لنا أجزاء من نص الإنجيل.المخطوط P52 من أقدم مخطوطات العهد الجديد، يعود تقريباً إلى عام 125 ميلادياً، عُثر عليه في مصر في صحراء الفيوم في النصف الأول من القرن العشرين. تحوي واجهة المخطوط الآيات (يو 18: 31-33)، وخلفية المخطوط الآيات (يو18: 37-38). وهذا المخطوط محفوظ حاليًا في مكتبة جون ريلاندز في مانشيستر في إنجلترا. – القديس أغناطيوس الأنطاكي الذي استشهد في روما بعد عام 110م، يستعمل كلمة sa,rx للإفخارستيا، كما يستعملها إنجيل يوحنا (يو 6 : 55) بدلا من كلمة sw/ma كما تستعملها الأناجيل الإزائية. – يوستينس الفيلسوف والذي استشهد في روما عام 165م، يظهر في كتاباته معرفة كبيرة بإنجيل يوحنا، من خلال استخدامه لمفهوم اللوغوس ومفهوم الميلاد الثاني، كما هو موجود في حوار يسوع مع نيقوديموس (يو3).
2) من القرن الثالث حتى التاسع عشر:
لقد نال الإنجيل حظًا كبيرًا من الإعجاب والتأمل، ولكنه نال أيضًا القسط الأوفر من المناقشات والجدالات حول رسالته وتفسيرها. لذا نجد الكثير من المؤلفات التي تتناول الإنجيل في هذه الفترة. – في نهاية القرن الثاني نجد هيراكليون، الفيلسوف المسيحي الغنوصي، يكتب أول شرح لإنجيل يوحنا، لكن للأسف فُقد هذا الشرح، ولم يصلنا منه إلاّ أجزاء معدودة عن طريق أوريجانُس. – أوريجانُس أيضًا، في القرن الثالث، كتب تعليقه على إنجيل يوحنا، ولم يصلنا من هذا التعليق إلاّ 8 أجزاء من إجمالي 38 جزءًا. – هناك كذلك أحد تلاميذ القديس إكليمنضس الإسكندري في القرن الثالث، وقد كتب تأملاته حول الإنجيل وبالأخص المقدمة. حتى وإن كان أسلوب هذا التلميذ دفاعيًا، إلاّ أنه حاول أن يصل إلى المعنى الحرفي (التاريخي) للنص، واستخدم أيضًا أسلوب مدرسة الإسكندرية الرمزي في التفسير. – هناك أيضًا الكثير من آباء الكنيسة الشرقيين من كتبوا عن إنجيل يوحنا، مثل القديس كيرلس الإسكندري والقديس يوحنا ذهبي الفم أسقف القسطنطينية. وكذلك من الغرب أمثال القديس أوغسطينُس. وأيضًا من العصر المدرسي مثل القديس توما الأكويني وبونافنتورا، وبعد ذلك أيضًا مارتن لوثر وكالفين.
3) دراسات ما بعد القرن التاسع عشر:
منذ بداية القرن التاسع عشر، أي بداية عصر الدراسات النقدية للكتاب المقدس، بدأ الدارسون إعادة وضع بعض القضايا الخاصة بإنجيل القديس يوحنا تحت المجهر، لدراستها من جديد بعين نقدية. ومن أهم هذه القضايا:-
– القضية اليوحناوية، أي قضية مؤلف الإنجيل في عام 1820 قام أحد الدارسين، يُدعى برت شنايدر K. G. Bretschneider، لاهوتي بروتستانتي ألماني، بعمل دراسة حول الإنجيل خلُص منها إلى أن المؤلف لا يمكن أن يكون شاهد عيان للأحداث التي يرويها، لأنه لو كان كذلك لكان قد نقل نفس كلمات يسوع الموجودة في الأناجيل الإزائية. كما أن ثقافة يوحنا بن زبدى المحدودة كصياد، لا تساعده على كتابة عظات دفاعية مثل تلك التي يحتويها الإنجيل. على سبيل المثال، حوارات يسوع مع نيقوديمُس والسامرية. لكن تؤكد الكنيسة الكاثوليكية أن المؤلف هو يوحنا بن زبدى، التلميذ الذي كان يسوع يحبه، وذلك استنادًا إلى التقليد المُستلم عن المؤلفين المسيحيين الأوائل مثل بابيا وإيريناوس وغيرهم. واستنادًا أيضًا إلى الشهادات الداخلية في النص نفسه: “34لكِنَّ واحِداً مِنَ الجُنودِ طَعَنه بِحَربَةٍ في جَنبِه، فخرَجَ لِوَقتِه دَمٌ وماء. 35والَّذي رأَى شَهِد، وشَهادَتُه صَحيحة، وذاك يَعلَمُ أَنَّه يَقولُ الحَقَّ لِتُؤمِنوا أَنتُم أَيضاً” (يو19: 34-35). وشاهد العيان هذا هو التلميذ الذي كان يسوع يحبه والذي كان واقفًا تحت الصليب (يو19: 26-27). وبغض النظر عن الكثير والكثير من المقترحات، التي تحاول الوصول إلى معرفة يقينية لهوية التلميذ الذي كان يسوع يحبه، فإن الكنيسة تستند في ذلك إلى التقليد الآبائي المُستلم، والذي يجعل من يوحنا بن زبدى والتلميذ الذي كان يسوع يحبه شخصية واحدة.
– قضية مصادر الإنجيل:
في بدايات القرن العشرين، كان هناك العديد من الدراسات حول المصادر التي استعملها الإنجيلي عند الكتابة، ومن أهم هذه الدراسات– حتى وإن كانت غير مقبولة- هي تلك التي قام بها رودلف بولتمان R. Bultmann. يرجح بولتمان أن الإنجيلي دخل المسيحية آتياً من شيعة معمدانية لها خلفية غنوصية، وهذا– كما يقول بولتمان- واضح في الإنجيل. وعلى حد دراسته فإن الإنجيلي استقى مادته من أحد المصادر، التي تحوي مجموعة من معجزات يسوع، والتي يشكك بولتمان في تاريخيتها، وأيضا من مصدر آخر من أصل آرامي يحوي مجموعة من العظات. لكن اكتشافات قمران أظهرت أن الإنجيل ترجع جذوره إلى اليهودية الكتابية والربّينية، حيث إن أفكاره تتشابه كثيرًا مع التعاليم الموجودة في نصوص قمران، ومع ذلك لا ننكر اتصاله ببعض التيارات الهللينية وقبل الغنوصية.
عن مجلة صديق الكاهن 3 / 2009