الأحد الثالث من الزمن الفصحي: “وانفتحت أعينهما”.-الأب داني قريو السالسي
الأحد الثالث من الزمن الفصحي: “وانفتحت أعينهما”.
الأب داني قريو السالسي
إنَّ الكنيسة في الأحد الثالث من الزمن الفصحي تتحفنا بلوحة في غاية الروعة بقلم القديس لوقا البشير. ألا وهي لقاء القائم مع تلميذي عماوس.
هناك أسئلة كثيرة تراود المؤمنين وغير المؤمنين حول قيامة الرب يسوع من بين الأموات، والتي هي مركز وجوهر إيماننا. لم أره! كيف أستطيع أن أؤمن به؟ لم يتراءى لي! لم ألتقي به في حياتي! هل يجب أن أؤمن فقط لأن فلان أخبر عنه؟
إنّ القديس لوقا يشابهنا في بعض النواحي، فهو أيضاً لم يرى أو يتكلم مع يسوع الناصري مباشرةً، لم يلتقي بالرب القائم، إنما سمع عنه وألتقى مع مَن عاين وعاش معه.
إنّ مقطوعة هذا الأحد تحدثنا عن تلميذين. أحدهما اسمه قلاوبا، أما الثاني فهو من دون اسم. وهنا يأتي السؤال: لماذا لم يضع لوقا اسم التلميذ الآخر؟ هل نسيّ اسمه؟ أو لأنه كان يجهله؟ إلجواب هو في غاية البساطة. لم يضع اسمه، ليقول لي ضع اسمك مكانه، يجب أن تقوم أنت شخصياً بهذه المسيرة “ستين غلوة” سبعة كيلومترات. أي أن تقوم بهذه المسيرة في حياتك لأن القائم هو معك، يسير برفقتك جنباً إلى جنب. إن آخر آية من الانجيل بحسب متى “هاأنذا معكم حتى منتهى الدهر” أنا معك في كل لحظة. إينما ذهبت لن أتركك لوحدك. وكأن القديس لوقا يقول: إذا كنت في مسيرة فبالتأكيد سيلتقيك القائم. سيقترب منك “وإذ يسوع نفسه قد دنا منهما وأخذ يسير معهما” الفعل اليوناني ليس دنا إنما لمس. إن بدأت مسيرتك فسيأتي الرب ويلمس حياتك، يقترب منك ويتحد بك ويتواصل معك ليس فقط روحياً بل جسدياً أيضاً.
“وبينما هما يتحدثان ويتجادلان” الفعل suzeteo المترجم يتشاجران هو فيي اليونانية نقاش حاد، شجار، غضب… أي أنَّ أحدهم يطرح قضية والآخر يعارضه ولا يتفق معه. “يتحدثان ويتشاجران” لأنهما ارتكبا خطأن كبيران. الأول هو الابتعاد عن جماعة الرسل. الجماعة التي كانت تبحث عن معنى لما حدث. يسوع المسيح، صلب ومات! هل انتهى كل شيء؟ هل كان حلماً وزال؟ أما الخطأ الثاني هو عدم انسجامهم مع الجماعة. عدم الاتفاق بينهم وبين الجماعة “غير أن نسوة منا قد حيرننا، فإنهن بكرن إلى القبر، فلم يجدن جثمانه فرجعن وقلن إنهن أبصرن في رؤية ملائكة قالوا إنه حي. فذهب بعض أصحابنا إلى القبر، فوجدوا الحال على ما قالت النسوة. أما هو فلم يروه”. أما لم يصدقوا أو لم يقتنعوا!
وبينما هما في الطريق، في المسيرة “إذا يسوع نفسه قد دنا منهما وأخذ يسير معهما، على أنّ أعينهما حجبت عن معرفته”.لايذكر النص أنّ يسوع تنكر وسار معهما! أنّ شكله كان مختلفاً عن قبل! أنّه كان مقنعاَ ملثماً!
كلّها ثلاثة أيام التي غاب فيها عنهم. كيف لهم ألا يعرفاه؟ هل ممكن أن يحدث هذا؟ كيف يمكن شرح هذا الحدث؟ مع أنّ”يسوع هو هو أمس واليوم وغداً” مع هذا لم يتعرفا عليه. إن الأمر له في غاية البساطة. لو تخيلنا أنّ هناك شخصان في ريعان شبابهما وهناك فتاةً حسنة المظهر، جميلة، أنيقة، لبقة… الاثنان يريان نفس الشيء، يريان جمالها، أناقتها، لباقتها… لكن أحدهما يرى ما وراء ما يظهر، يرى فيها شريكة حياته. لا يرى فقط ما يظهر للجميع من جمال واناقة ولباقة ولطف… إنما يشعر بأن أمراً ما بدأ يشتعل بداخله، يُغرم بها، يشعر بالهيام نحوها، يرى أنَّ هذه هي الفتاة التي كان يبحث عنها ويريد الارتباط معها والاتحاد بها. رأى ما لا يُرى. إكتشف ما لم يكتشفه صديقه. إن فعل الإيمان هو هذا الهيام، هذا العشق والغرام، هو الاتحاد مع مَن تريد أن ترتبط به. الايمان يرى ويتجاوز ما تراه العيون البشرية. المؤمن يتحلى بنظرة خاصة ثاقبة.
هذان التلميذان عندما يتحدثان عن يسوع يقولان أنّه: “كان نبياً مقتدراً على العمل والقول عند الله والشعب كله، كيف أسلمه عظماء كهنتنا ورؤساؤنا ليحكم عليه بالموت، وكيف صلبوه. وكنا نحن نرجو أنه هو الذي سيفتدي إسرائيل ومع ذلك كله فهذا هو اليوم الثالث مذ جرت تلك الأمور. غير أنَّ نسوة منا قد حيرننا، فإنهن بكرن إلى القبر فلم يجدن جثمانه فرجعن وقلن إنهن أبصرن في رؤية ملائكة قالوا إنه حي. فذهب بعض أصحابنا إلى القبر، فوجدوا الحال على ما قالت النسوة. أما هو فلم يروه “. يكرران ما قاله ورآه ولاحظه الجميع. من خلال حديثه لانستطيع أن نستشف أي نوع من الغرام، من العشق نحو يسوع. لاحظوا أنّه تألم وصلب، لاحظوا أنّ القبر فارغاً، أنّه تراءى لأناسٍ والآن يبشرون. لاحظوا ما لاحظوا الجميع لكن لا يملكون بعد هذه النظرة الثاقبة، التي تذهب ما وراء الملاحظ بالعين المجردة.
في إحدى المرات عندما كنت في إيطاليا ذهبت مع زملائي الكهنة لأخذ فنجان من القهوة في إحد البارات. وكنّا نتحاور في مسألة لاهوتية إيمانية. كانت طاولتنا بالقرب من المحاسب (الملحد). كان يراقبنا بدقة ويحاول إلتقاط كل كلمة نتفوه بها. وعندما ذهبنا لنحاسب قال لنا: أنا أحسدكم على إيمانكم. أحسدكم لأنكم تملكون نظرة ثاقبة أنا لا أملكها، ترون أموراً أنا لا أراها. لهذا تعيشون بقناعات مدهشة. بصدق أني أحسدكم، وختم قائلاً: صلوا لأجلي.
كثير من المرات نسير والرب يسير إلى جانبنا ولكننا لا نعرفه، لا نراه. فتكونوا حالتنا كحالة تلميذي عماوس “فوقفا مكتئبين”.ممكن أن نراه شخصاً مزعجاً. يسألنا أسئلة غريبة وكأنه قادمٌ من كوكبٍ آخر “أأنت وحدك نازل في أورشليم ولا تعلم الأمور التي جرت فيها هذه الأيام؟ ” وممكن أن يوبخنا “يا قليلي الفهم وبطيئي القلب عن الإيمان بكل ما تكلم به الأنبياء”. طرق يسوع في تربيتنا غريبة وعجيبة لكن دائماً مدهشة ورائعة. وماذا فعل يسوع؟ “فبدأ من موسى وجميع الأنبياء يفسر لهما جميع الكتب ما يختص به”. قام بما نقوم به في كل قداس. بدأ بالقراءة الأولى من العهد القديم، ثم المزمور والرسالة فالعظة. ولكن رغم أنّه ذكّرهم وشرح وفسر الكتب، لكن عيونهم لم تنفتح بعد. رغم كل هذا لم يحدث الشفاء. بحاجة إلى كسر الخبز. فقط في كسر الخبز “ولما جلس معهما للطعام أخذ الخبز وبارك ثم كسره وناولهما. وانفتحت أعينهما وعرفاه ” حدث الغير متوقع! لأن الحركة التي قام بها يسوع – كسر الخبز- هي ملخص كل حياته. في العشاء السري عندما أخذ الخبز وكسر، قال: هذا أنا! غذاء لحياتكم! هذا الخبز يدل على كل حياتي. خذوا وكلوا واعملوا ما عملت أنا. عندما كسر الخبز، انفتحت عيونهما فشاهدا القائم. عرفاه لأنهم أحبوه – هذا هو الإيمان، مسيرة غرام فحب- كان قبلاً شخصاً مزعجاً، شخصاً يحشر أنفه فيما لا يعنيه. الآن أصبح شخصاً مقبولاً، مرحباً به “فألحا عليه قالا: أمكث معنا، فقد حان المساء ومال النهار” وكأنهما من شدة غرامهم له يقولان له: لا يكفي أن نأخذ رقم الموبايل والعنوان، تعال واقيم عندنا، أسكن معنا. فقد اولعنا بك. عظة يسوع أدفأت قلوبهم “أما كان قلبنا متقدا في صدرنا، حين كان يحدثنا في الطريق ويشرح لنا الكتب؟” إنّ كسر الخبز أنار قلوبهم وعقولهم فانفتحت عيونهم. وبما أنَّ هذه الفرحة غمرتهم وملأت قلوبهم لم يستطيعا أن يحتفظا بها لوحدهما!! فأسرعا “وقاما في تلك الساعة نفسها ورجعا إلى أورشليم، فوجدا الأحد عشر والذين معهم مجتمعين ” ليعلنا الخبر السار. وكذلك الأحد عشر أخبروهم بنفس الحدث أنّه قام وظهر لسمعان.
إخوتي وأخواتي إن عشنا القداس بكل تفاصيله، سنرى القائم وسننطلق لنخبر العالم بأسره، لأن خبرة الرؤية الجديدة، خبرة الغرام لهي في قمة الروعة ولا يمكن السكوت عنها. (لو24، 13-35).