العظة الأولى للأب رانييرو كانتالاميسا في زمن المجيء
العظة الأولى للأب رانييرو كانتالاميسا في زمن المجيء
مع ابتداء زمن المجيء، بدأت اليوم في الفاتيكان سلسلة العظات التحضيرية للميلاد التي يلقيها الأب رانييرو كانتالاميسا واعظ القصر الرسولي بحضور قداسة البابا فرنسيس وأعضاء الكورية الرومانية. وفي عظته الأولى لهذا العام قال الأب كانتالاميسا: يهدف تأملنا اليوم لتحضيرنا لعيش الميلاد برفقة القديس فرنسيس الأسيزي، سنحاول معًا فهم ما قام عليه التجديد الذي أحدثه القديس فرنسيس بقداسته في الكنيسة وما يحمله لنا اليوم مثل حياته في زمننا الحاضر.
أولاً لنفهم مغامرة القديس فرنسيس علينا أن ننطلق من ارتداده، وبالتحديد من شهادته الشخصيّة التي نقرأها في وصيّته وبكلماته: “هكذا أعطاني الرب، أنا فرنسيس، أن أبدأ بالتفكير: إذ لمٌا كنت في الخطايا، كانت تبدو لي رؤية البُرْصِ مُرّةً. وقد قادني الرب نفسه بينهم ورئفت بهم. ولدى ابتعادي عنهم، تحوّل ما كان يبدو لي مُرَّاً إلى عذوبة الروح والجسد، وبعد ذلك بقيت قليلا ثمٌ هجرت العالم”. وأضاف: نجد عبر التاريخ العديد من القديسين الذين تعرفوا على المسيح انطلاقًا من محبتهم للفقراء كما وهناك آخرين تعرفوا على الفقراء انطلاقًا من محبتهم للمسيح، والقديس فرنسيس هو واحد منهم، فارتداده لم يكن لأسباب اجتماعية بل إنجيليّة، متبعًا بذلك وصية يسوع: “مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزهَد في نَفسِه ويَحمِل صليبَه ويَتبَعْني، لأَنَّ الَّذي يُريد أَن يُخَلِّصَ حَياتَه يَفقِدُها، وأَمَّا الَّذي يَفقِدُ حَياتهُ في سبيلي فإِنَّه يَجدها” (متى 16، 24- 25).
تابع الأب كانتالاميسا يقول: لم يقترب فرنسيس بإرادته من البرص تدفعه شفقة إنسانية أو رأفة مسيحيّة، بل وكما يكتب: “لقد قادني الرب نفسه بينهم ورئفت بهم”، أي أن الرب يسوع كان قد أعد قلبه لكي يجيب، في الوقت المناسب، بحريّته على النعمة التي يهبه إياها. وبذلك يشبه ارتداد القديس فرنسيس ارتداد رسول الأمم، الذي في مرحلة من مسيرته أصبح يعد كل ما هو ربح له خسرانًا من أجل المسيح (راجع فيليبي 3، 7)، وهكذا بالنسبة لفرنسيس فقد تحول المرُّ إلى عذوبة من أجل المسيح، لذلك يمكنهما أن ينشدا معًا: “ما عدت أنا أحيا بل المسيح يحيا فيَّ”.
تابع واعظ القصر الرسولي يقول: كيف تحوّل حدث ارتداد فرنسيس الشخصي إلى تيار غيّر وجه الكنيسة في ذلك العصر وطبع التاريخ حتى يومنا؟ لنفهم ذلك علينا أن نعود إلى تلك الحقبة، ففي أيام فرنسيس كانت الكنيسة بحاجة ماسة لتجديد جوهري، وكانت تعيش في جو من المشادات والنزاعات العميقة، وفي هذه الظروف كانت كل جماعة تحاول الاستفادة من الوضع لمصالحها الشخصيّة. وكان الجميع يدينون الكنيسة بسبب الغنى المتزايد وغياب الفقر والبساطة الإنجيليّة. وفي هذا السياق برزت صورة القديس فرنسيس، كعلامة للعناية الإلهية كما نقرأ في أحد الكتب التاريخيّة: “وبينما كان غنى الكنيسة وسلطتها يتزايدان ليصبحا مصدرًا للشرور وكان هراطقة ذلك الزمن يحاربونها ويتهمونها، ولدت في بعض الأرواح التقيّة تلك الرغبة النبيلة لاستعادة حياة يسوع الفقيرة وحياة الكنيسة الأولى، لتعليم الشعب بشكل أكثر فعالية بالكلمة والمثل”. لكن ما هو أكيد أن القديس فرنسيس لم يفكر يومًا بأنه دُعي ليحدث تجديدًا في الكنيسة، لقد عاش بساطة الإنجيل مجيبًا على دعوة المصلوب له في كنيسة القديس داميان: “يا فرنسيس! قُم وأصلح كنيستي”.
تابع الأب كانتالاميسا يقول: لم يكن في رغبة فرنسيس يومًا أن يكون مصلحًا، لقد عاش إنجيل يسوع وهذا يظهر من خلال وصيته لتلاميذه كما نقرأ: “وبعد أن أعطاني الرب إخوة، لم يدلّني أحد إلى ما يتوجب علي عمله، لكنّ العليّ نفسه أوحى إليّ بأنّ عليّ العيش وفقاً لنهج الإنجيل المقدس. وأنا جعلت (ذلك) يُكْتَب بكلمات وجيزة وبسيطة، وثَبَّتُه لي السيد البابا”. كما ويظهر أيضًا من خلال قانون الحياة الذي تركه لتلاميذه: ” إنّ قانون الإخوة الأصاغر وحياتهم هو: حفظ إنجيل ربنا يسوع المسيح المقدس”. لقد كانت هذه العودة الجذرية للإنجيل تظهر من خلال عظات فرنسيس وكتاباته، وقد تميّزت توصياته دائمًا بالدعوة إلى الارتداد والتوبة، تمامًا كتلك الدعوة التي نقرؤها في بداية إنجيل يسوع للقديس مرقس. لذلك يمكننا أن نشبه عمل فرنسيس في زمانه بعمل المجمع الفاتيكاني الثاني الذي كان يهدف لـ “هدم الحصون” أي “لتحطيم” عزلة الكنيسة وتقريبها مجددًا من الناس.
ماذا تقول لنا اليوم خبرة القديس فرنسيس؟ بماذا يمكننا أن نتشبّه به؟ لقد بدأت مسيرته الروحيّة بالعودة إلى الله، وبإخلاء ذاته متشبهًا بيسوع المسيح. ما معنى إخلاء الذات هذا؟ هل يمكننا أن نقدمه لعالم يعيش فقط على تحقيق الذات وتثبيت الوجود؟ علينا أن نفهم أن إخلاء الذات ليس هدفًا بحد ذاته: “مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزهَد في نَفسِه ويَحمِل صليبَه ويَتبَعْني” فالهدف إذًا هو إتباع المسيح وامتلاك المسيح. الهدف هو أن نقول لا لأنفسنا ورغباتنا ونعم للمسيح. يكتب القديس بولس بهذا الصدد: “لأَنَّكم إِذا حَيِيتُم حَياةَ الجَسدِ تَموتون، أَمَّا إِذا أَمَتُّم بِالرُّوحِ أَعمالَ الجَسَدِ فسَتَحيَون”، إنه موت للحياة!
ختم واعظ القصر الرسولي الأب رانييرو كانتالاميسا عظته الأولى بمناسبة زمن المجيء بالقول: إنه هدف صعب! لكن حياة القديس فرنسيس قد أظهرت لنا ثمار إخلاء الذات كجواب على نعمة الله، وهي ذلك الفرح بان نتمكن من الإنشاد مع القديس بولس والقديس فرنسيس: “ما عدت أنا أحيا بل المسيح يحيا فيَّ”، فيبدأ عندها زمن الفرح والسلام في أرضنا هذه!
إذاعة الفاتيكان