stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

كتابية

طوبى لعيونكم لأنها تبصر (مت 13: 10-17)- الأب د./ كميل وليم

932views

www-St-Takla-org--Eye-Retina

جمع القدّيس متى في الخطاب الثالث من خطب المسيح (مت 13: 1-52) عدداً كبيراً من أمثال الملكوت التي وصلته بطرق متعددة من التقليد. يذكر القدّيس متى في المقدمة أن موضوع تعليم يسوع هو “أمور عديدة” (راجع 3:13)، ولكنه يحدد فيما بعد أن الأمر يتعلق “بأسرار الملكوت” (را 11:13) و”كلمة الملكوت” (18:13) و “الكلمة” (20:13-23)، و”ملكوت السموات” (24:13،31،33،44،47).

استقى القدّيس متى مثلين من هذه الأمثال من تقليد القدّيس مرقس [مثلا الزارع (مر3:4-9// مت 3:13-9) وحبة الخردل (مر30:4-32// مت31:13-32)]. وأغفل بدون سبب معروف مثل الزرع الذي ينمو وحده (مر 26:4-29)، واستقى من مصدر قديم مثلين هما مثل الخميرة (مت 33:13) ومثل الكنز (مت 44:13). ويُعرّف القديس لوقا هذين المثلين، إلا أنه يضعهما في سياق آخر: فمثل الخميرة يرد في الفصل الثالث عشر الذي يبدأ بضرورة التوبة (لو1:13-5) ثم مثل التينة التي لا تثمر (لو 6:13-9) وشفاء المرأة المنحنية الظهر في السبت (لو 10:13-17) ثم مثل حبة الخردل (لو 18:13-19) وأخيراً مثل الخميرة (لو 20:13-21). تلي ذلك فقرة طويلة عن من يخلص (لو 22:13-30) وأخرى أقصر عن يسوع وهيرودس (لو 31:13-33) ويختتم الفصل بفقرة إنذار لأورشليم (لو 34:13-35). أما باقي الأمثال الزرع الجيد والزؤان (مت 24:13-30)، مثل اللؤلؤة (مت 45:13-46) ومثل الشبكة (مت 47:13-50) فتعود إلى مصدر يبدو أن متّى وحده هو الذي استعمله.

وتمثل الأمثال السبعة المذكورة تعليماً محدداً عن ملكوت الله. لا تتناول هذه الأمثال، كما هو الحال أيضاً في إنجيل القديس مرقس، طبيعة الملكوت، بل تتناول حضور هذا الملكوت في التاريخ: فيُظهر مثل الزارع أن الملكوت لا ينمو بدون صعوبات ومقاومة وفشل، ويُظهر مثلا حبة الخردل والخميرة أن الملكوت ينمو وينتشر بالرغم من صغر حجمه في البداية. بينما يظهر مثل الزرع الجيد والزؤان أنه لا يجب أن يتعجب المرء من تواجد الأشرار والأبرار، الخير والشر معاً. ويؤنب مثلا الكنز واللؤلؤة كل الذين لا يتخلون عن عاداتهم القديمة وقوالب خططهم وممارستهم الدينية الثابتة أمام الجديد الذي يحمله ويعلمه يسوع. 

ويذكر مثل الشبكة التلاميذ وكل المبالغين في الغيرة أن زمن الملكوت ليس هو زمن التمييز بقدر ما هو زمن الجمع. يتضح لمن يدرس خطب الأمثال في إنجيل القديس متى أنها تدور حول مسألتين: المسألة الأولى، وقد تناولها أيضاً إنجيل القديس مرقس، هي مسألة عدم الإيمان: كيف يمكن تفسير إيمان البعض بالكلمة ورفض الكثيرين لذات الكلمة؟ إذا كانت بشارة يسوع، والآن بشارة الجماعة، هي كلمة الله، أفلا يجب أن يقتنع بها الجميع؟ والمسألة الثانية، يتفرّد بها إنجيل القديس مرقس: مازال الخطأة، أي الزؤان، موجودين في جماعة المسيحيين. كيف يمكن تفسير هذا الأمر؟ وما هي طريقة التصرف تجاههم؟ 

أعطيتم… أما هم فلم يعطوا (مت 11:13)

يزيد حوار يسوع مع تلاميذه في إنجيل القديس متى (مت 10:13-17) اتساعاً منه في إنجيل القديس مرقس (مر 11:4-12). توضح الإضافات والتعديلات التي أجراها إنجيل القديس متى مزاياه وأهدافه التي يمكن تلخيصها في ثلاثة فروق:

– التلاميذ والجموع

– رؤية وسماع بلا فهم، ورؤية وسماع وفهم

– التلاميذ الذين يرون، والأنبياء والصديقين الذين تمنوا أن يروا ولم يروا.

يرد الفعل أُعطي في المبني للمجهول ويشير هذا الأمر إلى أن الإنسان لا يستطيع، بقواه الذاتية، الحصول على معرفة أسرار ملكوت الله: إن الله وحده يهبه هذه المعرفة. كما يشير الفعل في الوضع التام Parfait إلى استمرار هذه الهبة. الأولوية تعود دائماً لله حتى في حالة عدم الإيمان: “لم يُعطوا”. يركّز القديس متى بشدة على أولوية الله في المثل وبذلك يضفي عليه صيغة لاهوتية واضحة. ولكن الكاتب لا يتوقف عن هذا الحد، إذ يسارع ليأخذ الاحتياطات التي تبعد أي احتمال أو أي ميل إلى الوقوع في القدرية. بعد أن أوضح يسوع المسيح الفرق بين التلاميذ والجماعة، حدد ما هي الأمور التي يُسأل عنها الإنسان. 

إن أولوية الأمور الإلهية لا تنقص مساحة مسؤولية الإنسان؛ لأن يسوع يكلّم الجموع بالأمثال لأنهم “ينظرون ولا يبصرون- يسمعون ولا يسمعون.. ولا يفهمون” (مت13:13). هناك فرق بين إنجيلي القديس مرقس والقديس متى: ففي إنجيل القديس مرقس يتكلم يسوع بالأمثال لكي لا يفهموا: “فينظرون نظراً ولا يبصرون ويسمعون سماعاً ولا يفهمون لئلا يرجعوا فيغفر لهم” (مر12:14). أما في إنجيل القديس متى فإنه يكلمهم بالأمثال لأنهم في الواقع “ينظرون ولا يسمعون ولا يفهمون” (راجع مت 13:13). لا يكفي القول إن التلاميذ يفهمون الأمثال لأن يسوع يشرحها لهم، بل أن يسوع يشرح لهم الأمثال لأن لديهم الاستعداد لفهمها. إن الله ظاهر، جلي، واضح لمن لديه الاستعداد للفهم.

بذلك نستطيع أن نقلب ترتيب الألفاظ والمعاني ونقول: لا يكلّم يسوع الجموع بغموض (أي بالأمثال) بل الجميع هي التي تسمع ولا تسمع تنظر ولا ترى، وبذلك تحول وضوح كلام يسوع إلى غموض وإبهام، وتلقي عليه ظلال عدم الرؤية وتشويش السماع وعدم الفهم. يكلم يسوع الجميع: التلاميذ والجموع بنفس الطريقة ونفس الوضوح. يؤكد هذا الرأي استشهاد يسوع بنص أشعيا النبي (مت 14:13-15// أش 9:6-10). ومن الملاحظ أنه بالرغم من كثرة استشهاد إنجيل القديس متى بنصوص العهد القديم فإن النص الوحيد الذي يضعه الإنجيلي على فم يسوع هو هذا أي أش 9:6-10. تدل الأفعال في هذا المقطع على واقع (هو هذا الواقع) وليس غاية (لكي…). لقد غلّظ الشعب قلبه ولم يغلظ الله هذا القلب.

من كان له يعطى 

يستعين يسوع بمثل غامض، لكي يفسّر لماذا أعطى الرسل هبة الفهم بينما حُرم منها الشعب. فيقول: “لأن من كان له شيء، يُعطى فيفيض، ومن ليس له شيء ينزع حتى الذي له” (مت 12:13).

يبدو، لأول وهلة، أن يسوع يذكر هنا مثلاً شعبياً شائعاً في العالم كله: “الغني يزداد غنىً والفقير فقراً” أو “القرش يجيب قرش”…الخ وهناك نص مشابه في كتاب الأمثال: “رُبّ مبذر يزداد ماله ومقتصد فوق الحد لا تكون عاقبته إلا الفاقة” (أم 24:11). ولكن النص الأكثر قرباً لعبارة يسوع ورد في كتابات الربيين: “يستقبل، في مفاهيم البشر، الإناء الفارغ شيئاً ولكنه لا يمتلئ. أما عند الله فليس الأمر كذلك: فالإناء الممتلئ لديه يستقبل (شيئاً)، أما الإناء الفارغ فلا يستقبل (شيئاً)”. ربما أراد يسوع بذلك الإشارة إلى أن العمى يولّد المزيد من العمى، كما أن النور يولّد المزيد من النور: فمن يقبل الحقيقة فإنه يصبح أكثر استعداداً للتعرف عليها والإيمان بها. أما من يرفضها فيزداد عمى عنها.

من الملاحظ أن الأفعال ترد في صيغة المبني للمجهول، وربما يكون في ذلك تنويه إلى الله. وفي الواقع تزيد الحقيقة الإنسان نوراً وإشعاعاً والكذب يزيده غموضاً. وهذا أمر طبيعي وبالتالي يدخل في رسم وخطط الله تعالى.

ومع ذلك فالإنسان مسؤول عن مصيره واختياره: الأساس هو القلب القاسي الغليظ أو الحساس المتجاوب، كما يتضح من نص إشعيا الذي يورده الإنجيلي. ينتهي الحوار بين يسوع وتلاميذه بنبرة إيجابية: إنه يدعوهم للوعي بالهبة التي نالوها: إنهم وهبوا معرفة أسرار ملكوت الله بينما حُرم الآخرون من ذلك. إنهم وُهبوا أن يعيشوا في زمن المسيح وهذا ما اشتهاه كثير من الصديقين والملوك والأنبياء ولم يُمنح لهم. كان أقصى ما يتمناه أيٌّ من أبناء بني إسرائيل هو أن يعيش حتى يرى زمن المسيح.

عن مجلة “صديق الكاهن”