stay connected

- Advertisement -
الكنيسة الكاثوليكية بمصر

construct design

Travel

كتابية

مثل الفريسيّ وجابي الضرائب-د. الأب/كميل وليم

1.4kviews

jpg_07

ترصد لنا الأناجيل الإزائية المواجهة بين يسوع من ناحية، وقادة الشعب؛ وخاصًّة الصدوقيين والفريسيين من ناحية أخرى. ويجدر بنا أن نتعرّف على بطلي هذا المثل. كوّن الفريسيون جماعات صغيرة قوية بهدف المحافظة على أدق ترتيبات الشريعة: سنن الطهارة الشرعية والعشور. يفقد الطهارة الشرعية كل من لامس أشياء نجسة- ميت أو حيوان نافق مثلاً- أو الذي أفرز جسده أية إفرازات، ولكي يكتسبها مرة أخرى كان عليه إجراء طقوس التطهير والغسولات الشرعية. وكان الفريسيون يغسلون أيديهم قبل الأكل (را مر3:7-4)، حتى يستطيعوا أن يرفعوها نظيفة للصلاة قبل الأكل. كما اهتموا بطهارة ونظافة الأدوات مثل الأكواب والأطباق (را مت 25:23-26؛ لو 39:11..). كما أولوا أشد الاهتمام تقديم العشور، لدرجة أنهم في حال تعاملهم مع غير الفريسيين- ما كانوا يضمنون أن هؤلاء دفعوا العشور- كانوا يدفعون هم العشور. لم يستثنوا من هذا الأمر أي شيء (را مت 23:23؛ لو 42:11).

يحفظ لنا التلمود صلاة قريبة جدًا من صلاة الفريسي في إنجيل القديس لوقا. “أشكرك أيها الرب إلهي لأنك جعلت نصيبي بين الذين يجلسون في بيت التعليم وليس بين الذين يجلسون على رؤوس الشوارع. إني أقوم مبكرًا، كما يقومون هم: أنا أقوم لأردّد كلمات الشريعة وهم يقومون لأعمال تافهة باطلة. أنا أتعب وأنال جزائي وهم يتعبون ولا ينالون أجرًا. أنا أجري كما يجرون: أن أجري تجاه حياة العالم الآتي وهم يجرون نحو هاوية الموت”.

يعدّد الفريسي في هذه الصلاة كل ما يقوم به من أعمال، وفي ذات الوقت يفصل نفسه عن الآخرين الذين، بخلافه، لا يعيشون بمقتضى الشريعة. إن هدف هذا المثل في إنجيل القديس لوقا هو إدانة موقفين خاطئين معارضين للتصرّف الإنجيلي: إدعاء البرّ الذاتيّ أمام الله والإحساس بالأفضلية على الآخرين (19:18).

ومن المثير للدهشة أن هذين الموقفين يرتبطان أحدهما بالآخر ارتباطًا وثيقًا، كما لو كان أحدهما هو نتيجة الآخر أو علّته. الفريسيّ، الذي يدّعي البر ويثق في ذاته هو قاضٍ قاسٍ يدين القريب: “لست كسائر الناس السراقين الظالمين…” (11:18أ) “ولا مثل جابي الضرائب هذا” (11:18ب). إنه لمن المثير أن يقدّم المثل موقفين للصلاة، لكي يصف من خلالهما طريقتي حياة مختلفتين. تكشف الصلاة عن أشياء أبعد وأعمق من الصلاة ذاتها. وبالتالي فإن ما يجب إصلاحه ليست الصلاة (إنها ثمرة حياة)، بل الفكرة عن الله والخلاص والذات والآخر. في المثل بطلان: الفريسي وجابي الضرائب، ويجسّد كل منهما موقفًا يختلف عن موقف الآخر اختلافًا جذريًا في نظرته إلى الله والآخرين.

كل ما يقوله الفريسي صحيح. إنه يحافظ بدقة شديدة على أصغر الوصايا والترتيبات الشرعية. كما أنه يقوم بتضحيات عديدة. إنه لا يكتفي بما تطلبه الشريعة بل يتعدّاه إلى الأكثر والأصعب: لا يصوم يومًا واحدًا في الأسبوع، بل يومين. إن خطأ الفريسي ليس هو الرياء بل في ثقته المطلقة في برّه واستقامته. إن الله مدين له بما يفعله أكثر مما تقتضيه الشريعة، وبالتالي فهو لا يحتاج رحمة الله، ولا ينتظر الخلاص كهبة منه، بل مكافأة استحقها بأعماله وتقواه. لا يجب علينا أن نقسو جدًا على الفريسي لأنه يشبهنا. إنه يقول “اللهم شكرًا لك” وبذلك يعرض أمام الله برّه الذاتي. ولكن اعترافه هذا بالانتماء إلى الله يضيع في الطريق: ليس هذا الانتماء إلى الله هو منبع كل أحاسيسه، ولا يستمد منه سبب صلاته، ولا معايير حكمه على القريب.

ونلاحظ أن الفريسي، باستثناء توجّهه بالشكر لله في البداية، لا يصلي: إنه لا ينظر إلى الله ولا ينتظر منه شيئًا ولا يطلب منه أي شيء. إنه يتمركز حول ذاته ويقارن ذاته بالآخرين، ويحكم عليه بشدة وقسوة. وهذا ليس موقف صلاة على الإطلاق! أمّا جابي الضرائب بأنّه ينتمي إلى فئة مرذولة ولا تُقبل شهادتها في المحاكم. كان على هذه الفئة جمع الضرائب عن المعاملات التجارية: البيع والشراء والتصدير والاستيراد.

كانت الفئة تخدم الغزاة الرومان، الأعداء المكروهين. بالإضافة إلى نفور الشعب من دفع الضرائب هناك أيضًا جشع بعض أو معظم جباتها. لهذا كان جباة الضرائب يعتبرون خطأة عامين إلى جوار اللصوص والزناة والوثنيين.

صعد أحد جباة الضرائب إلى الهيكل ليصلي.

يختلف موقفه تمامًا عن موقف الفريسيّ. إنه يقف بعيدًا ويقرع صدره قائلاً “اللهم ارحمني أنا الخاطيء” (13:18). إنه هو أيضًا يقرّ بالحقيقة: إنه في خدمة الرومان ويحصّل أكثر مما يجب. إنه بالفعل خاطيء. لا يقوم تواضعه في الانسحاق. إنه يصف حالته بأمانة، كما وصف الفريسي أيضًا حالته بأمانة. ولكنه يعرف أنه خاطيء وأنه يحتاج إلى التغيير، وليس لديه ما يقدّمه لله أو يفاخر به. إنه يستطيع فقط أن يطلب. إنه يلجأ إلى الله ويثق به، لا يثق بذاته أو برّه. هذا هو التواضع الذي يتكلم عنه المثل، وهو الموقف الذي يمدحه يسوع: إنه لا يمدح حياة جابي الضرائب، كما لا يدين حياة الفريسي وأعماله.

النهاية واضحة وبسيطة: الطريقة الوحيدة التي يتقدّم بها الإنسان نحو الله، في الصلاة وفي الحياة، هي الشعور بالاحتياج الدائم لصفح الله وحبه. يجب عمل الخير ولكن لا يجب حسبانها، ولا الافتخار بها. كما أنّه لا مجال إطلاقًا لمقارنة الذات بالآخرين. الفريسيّ متدين جدًا وكل ما يقوله حقيقي. إنّه يعتبر قداسته وبرّه- إن جاز هذا القول- هبة من الله، كما أن ابتعاده عن جابي الضرائب أيضًا هبة إلهية. إنّه لا يمكن لومه أو اتهامه بعدم تتميم الوصايا والشرائع. إن الخطأ في الداخل: علاقته بالله. إن ما يُلام عليه هو الأساس وطريقة حياته الدينية: هناك تناقض كبير في حياته.

يؤكّد المثل أنّه كان يجب على الفريسي أن يعيش مثل جابي الضرائب. أعماله صالحة وتظل صالحة. لا يمكن أن يوجّه النقد لأعماله بل يوجّه إلى نظرته إليها. كما أنّه لا يمكن اتهامه بأنه يُرجع أعماله الصالحة إليه، كما يحلو لنا كثيرًا أن نردّد. إنّه يرجعها إلى الله “اللهم شكرًا لك”. يقوم الخطأ في النظر إلى الله على ضوء أعماله. أمّا يسوع فيريد ألاّ تكون النظرة من أسفل إلى أعلى، بل من أعلى إلى أسفل: من الله للإنسان لا من الإنسان إلى الله.