الأحد الأول من الزمن الأربعيني: التجربة الكبرى-الأب داني قريو السالسي
الأحد الأول من الزمن الأربعيني: التجربة الكبرى
الأب داني قريو السالسي
هذا الأحد هو الأحد الأول من الزمن الأربعيني، هذا الزمن الذي يقودنا إلى الفصح: بعد أربعين يوماً سنحتفل بأحد الشعانين وبعدها اسبوع الآلام الذي يختتم بعيد الفصح.
يفتتح الانجيل بهذه الآية “ثم سار الروح بيسوع إلى البرية ليجربه ابليس أربعين يوماً واربعين ليلة” إنّ الرقم أربعين هو رقم مميز في الكتاب المقدس، هو زمن العبور. حكم شاول وداوود وأيضاً سليمان أربعين عاماً؛ وعظ يونان أربعين يوماً من أجل أهتداء نينوى؛ دعي موسى عندما كان لديه 40 سنه؛ وبقي 40 سنة في سيناء؛ وكذلك بقي الشعب اليهودي 40 سنة في الصحراء. صام يسوع 40 يوماً في البرية؛ وجرب كذلك 40 يوماً؛ وعظ لمدة 40 شهراً؛ وبقي في القبر 40 ساعة وظهر لمدة 40 يوماً قبل صعوده إلى السماء.
الزمن الاربعيني هو الزمن الضروري لحدوث تغيير، تبديل، ليتم أمر ما. الزمن الاربعيني ليس الـ 40 يوما قبل الفصح. إنّما هو الزمن الكافي لتنمو، تتعب، تبكي، تئن… وتصل للهدف المراد، هو الزمن الذي به تعبر من حالة إلى أخرى، الزمن الكافي لتنضج وتتغير.
حتى إنّ كلمة فصح باللغة العبرية تعني “عبور”. أي عندما يتم العبور نكون قد وصلنا إلى الفصح. عندما يتم الانتقال من حالة إلى أخرى، نكون قد وصلنا إلى الفصح. مَن لا يعيش الزمن الاربعيني لن يستطيع أن يحتفل بالفصح، مَن لم يقم بـ “الخروج” الخاص به لن يصل إلى أرض الميعاد، مَن لم يعبر البحر الأحمر لن يستطيع أن يتنعم بالحرية ويتذوق الطعم الحقيقي للعيد.
إن الانجيل اليوم يتكلم عن تجارب يسوع، التي هي مثال لأية تجربة. كلمة تجربة باللغة اليونانية “peirasmos” تعني امتحاناً، ولكن تعني ايضاً تقييماً. أي أنّ التجارب تجعلنا نجري تقييماً لذواتنا، ولِما نحن عليه، تجعلنا نقيم ذاتنا، تصرفاتنا حياتنا كلها. فإن لم أكن صامداً ستأتي التجارب وتقض مضجعي، ستجعلني اضطرب وافقد سلامي. يقال أن الطبيعة البشرية تُشبَّه بكأس الماء النقي، العذب، أو بفنجان القهوة العربية ذي النكهة الأصيلة. وأيُ إهانة، أي خلاف يشبه الملعقة. فعندما نصطدم مع الآخر، تأتي الملعقة وتدور في الكأس أو الفنجان فإن كنت فنجان قهوة ستدور الملعقة وسيرتفع التفل إلى السطح بالتالي سيكون المذاق غير محبذ. أما إن كنت كأس ماء فحتى ولو أتت الملعقة ودارت لن يتغير شيء، وسيبقى المذاق عذباً، لأني نظيف، لأني نقي من الداخل، لن يخرج من داخلي إلا ما هو نقي. كثيراً من المرات نحن نغضب ونثور ليس بسبب الإهانة “التجربة” إنما لأن الاهانة “التجربة” (الملعقة) حرّكت ماكان راكداً في أعماقنا. وهذا ما تعنيه كلمة تجربة باللغة اليونانية. التقييم الذاتي لشخصي! التجربة تجعلني أعي من أنا بالحقيقة!
كل الشخصيات العظيمة (الكتابية وغير الكتابية) أنبياء قضاة، رسل، قديسين، آباء، رهبان، راهبات، قادة، حكام… خضعوا لتجارب عدّة. التجربة ليست تحريضا على عمل الشر. إن التجربة هي نور داخلي يرينا هويتنا الحقيقية، التجارب تقول لنا من نحن في عمق أعماقنا.
الإنجيل يقول: “ثم سار الروح بيسوع إلى البرية ليجربه ابليس أربعين يوماً واربعين ليلة” يسوع مدفوع للصحراء لم يأكل لمدة أربعين يوماً. لماذ؟ في الصحراء، في البرية، حيث أنت بمفردك! ولا أحد سواك! في البرية أنت مع ذاتك فقط! وهناك فقط تظهر من أنت! هناك فقط تكتشف ما في داخلك.
في إحدى المرات طلب زميلي من أحدهم أن يلتقي بأحد الشباب، وقال له: ما رأيك أن نتابع حديثاً غداً بعد القداس؟ فأجابه أنا لا أذهب لتلك الكنيسة! فسأله ولماذا؟ فقال: لا يعجبني كلام كاهنها!! فسأله: أين إيمانك؟ يكفي أن لايعجبك الكاهن، فلا تذهب للكنيسة؟ يكفي أن آراءه، أو طباعه لا تتفق مع آرائك وطباعك، كي تترك كل شيء وتبتعد؟ هذه الصعوبة، التجربة، أظهرته على حقيقته، أظهرت علنا عمق إيمانه!!
انجيل التجارب يرينا أنّه حتى على يسوع لم يكن الأمر سهلاً، حتى هو تكبد سحر قدراته. كان بإمكانه أن ينجذب لاستخدام قدراته لمنفعته الخاصة، كان بإمكانه أن يستسلم لنرجسيته في تأكيد صورته الشخصية.
في البرية صام يسوع! للأسف، نحن اليوم لا نفهم المعنى الحقيقي للصوم، لهذا لم نعد نصوم! الصوم ليس الانقطاع عن تناول الطعام، أو الامتناع عن أكل الزفر، أو تقديم الاماتات والتضحيات… الصوم هو القدرة على مواجهة الذات واكتشاف حقيقتها. الصوم يساعدني لأعي ذاتي وأعرف مَن أنا! الصوم يقول لي علناً من أنا؟
في نص التجارب يحاول الشيطان أن يلعب بالوقائع، فيقدمها إلى يسوع بطريقة ساحرة وذكية في نفس الوقت. الشرير يحاول دائماً أن يفصلنا عن ذواتنا ويجعلنا نفر هاربين عنها! يحاول أن يترك الشك يتسلل إلى قلوبنا. يحاول الشيطان أن يرينا السراب – وكما نعلم السراب هو أن نرى غير الموجود- بالتالي ترى شيئاً غير موجود وتؤمن أنّه موجود فتصوب نظرك نحوه وتنطلق من أجله، توجه حياتك نحوه، أفكارك، ميولك، أهواءك كلّها تعلقها عليه، تعلقها على هذا السراب. وبعد أن تصل تدرك أنّه لا شيءٌ مما كنت تظن، فتصاب بخيبة أمل لأنك فشلت!!
الشيطان يجرب يسوع ويوهم بثلاثة “إنْ” (التي هي بمعنى إذا، أو لو). “إن كنت ابن الله، فمر أن تصير هذه الحجارة أرغفة” و”إن كنت ابن الله، فألقِ بنفسك إلى اسفل” و “إن جثوت لي أعطيك كل هذا”. إنّ الأوهام في حياتنا ترافقنا ليلاً ونهاراً.
أوهام الحياة: “لو كنت محله!” “لو لم أقل تلك الكلمة!” “إن كانت لدي الجنسية الـ…!” “لو أن الظروف ساعدتني!” “لو كنت قد ولدت في عائلة اخرى!” ” لو لم أكن لم تكن هذه أمي!” …
أوهام الآخر: “لو يتبدل زوجي!” “لو تجد الفتاة المناسبة!” “لو أنه يتغير!” ” لو أنهم يختارني!” …
أوهام السعادة: “لو كان لدي مليون ليرة!” “لو كانت تلك المرأة زوجتي!” “لو كنت أنحف!” “لو قمت ببعض عمليات التجميل!” “لو أعطوني الفيزا!”….
أوهام المستقبل: “لو حدث كما أتوقع!” “لو ربحت بطاقة اليانصيب!” ” لو خسرت هذه الصفقة؟” “لو تغيرت الأمور؟” ” لو سرقنا؟”…
المجرب يحاول أن يبث الشك في قلوبنا، مبيناً لنا كيف يمكن أن يتغير الواقع “إن، لو، إذا”. لكن في الحقيقة الواقع لا يتغير! الواقع يعاش! أو يحاول أن يقدم لنا المستقبل ومخاوفه وشكوكه، لنتخبط في الغم والهم. إنَّ المستقبل غير موجود بعد، موجود فقط الحاضر، موجود فقط اليوم. يحاول أن يرينا السراب، فنركض، وبما أنّه سراب لن نلتقطه أبداً. إن لم تكن سعيداً اليوم، لن تكون سعيداً أبداً! لأن الحياة ليست بقدر ما لديك، إنما بقدر ما تستطيع ان تتذوقه وتشعربه. إن تنتظر ذلك الشيء، ذلك الأمر لتكون سعيداً، لن تحصل على السعادة أبداً.
التجارب التي يقدمها الانجيل هي خلاصة كل التجارب:
الأولى: (تجربة اللذة) “مر أن تصير هذه الحجارة أرغفة” “كل شي تحت تصرفي” أستعمل الآخرين لمنفعتي الشخصية! لخدمة أهدافي الخاصة. أي كل ماهو تحت يمينك فهو لك! إن تستطع أن تصعد حتى ولو على حساب الأخرين لما لا تفعل؟ “استعمل منصبك لتحصل على امتيازات في الحياة، لتفرض احترامك على الآخرين” لهذا هؤلاء الاشخاص لا يملكون شخصية حقيقية نجدهم يستعملون منصبهم ليشعروا أن الآخر يطيعهم.
الثانية: (تجربة القوة) “ألق بنفسك إلى أسفل” “أستطيع أن أفعل ما يحلو لي” الايمان بأنّي أستطيع فعل كل شيء. هذه التجربة هي دينية. أستطيع أن استعمل الله لمآربي الخاصة أو أشعر أنني انا هو الله. كم من الحروب اشتعلت تحت لواء الله؟ كم من شخص رمى فشله على الله! لدي ضعف فشل أنسبه الى الله، واقول هذه هي إرادة الله! هنا انا استعمل الله لتبرير السبب الحقيقي.
الثالثة: (تجربة الإمتلاك) أعطيك كل هذا إن جثوت لي ساجداً” “كل شيء في قبضة يدي” “أمتلك، أتحكم بالكل بالموارد، بالآخرين، بنفسي (مشاعري، أهوائي، رغباتي…). وبما أنّنا نختبر كل يوم ضعفنا وهشاشتنا، بالتالي نحاول أن نتجنب ما يسبب لنا ألماً. كم من الناس هي مراقبة، أوتعيش لتراقب ما يقوم به الآخر. يا للأسف على هؤلاء الأشخاص، لأنهم يحاولون أن يمتلكوا معلومات، آخرين… لهذا نجد أنّهم لا يختبرون شيئاً البتة، لا يتذوقون طعم الحياة، فقدوا نكهة التمتع بجمال العالم، اصبحوا عديمي الإحساس.
إنّ التجربة الكبرى هي أن نتجنب التجربة، أن نهرب منها. وهكذا لن نكبر أبداً. في التجربة يمتحن الانسان، فيكتشف من هو. إنّ الله يسمح بالتجارب ليس ليهلكنا ويدمرنا، إنما لكي نعي حقيقة ذوتنا! لكي نرى بيد مّن نضع حياتنا، لكي نكتشف على مَن نتكل! التجارب تساعدنا على أن نعزز إيماننا. بفضل التجربة نتخلص مما تعلق بنا من شوائب فنصبح أنقى وأنصع. لو لم تكن هناك التجارب لبقيت حياتنا راكدة كالمستنقع تتجمع عليها كافة أنواع البعوض والحشرات، إنّ التجارب هي فرصة لننفض ما علق بنا، ونكتشف من نحن، فنصبح كالبحر الذي يجدد نفسه. فلنشكر الرب إذاً على تجارب الحياة.
يسوع من خلال التجارب يؤكد ويتأكد أنّه هو ابن الله الحبيب الذي رضي الله عنه. يؤكد أمانته لله ويتأكد أنّ الله لن يتركه أبداً، يُظهر للملأ بنوته الحقيقية ويَظهر كابن حقيقي!