القديس بطرس كلافر اليسوعي ( شفيع العبيد )
يحتفل بعيده في يوم 9 أيلول (سبتمبر ) من كلّ سنة.
ولد بطرس كلاڤر في حزيران (يونيو) 1580، في قرية ڤيردو التابعة لإقليم كَتالُنيا الإسبانيّ. وهو أصغر إخوته الثلاثة. عاش أيّام طفولته بالرّيف، يتأمّل جمال الطبيعة وعظمة قدرة الخالق. فنَمَت الدعوة في نفسه ببطء كما تنمو الحبة بباطن الأرض. وفي سن الثالثة عشرة، عزم على أن يصير كاهنًا، ليخدم الفقراء ويمنح الأسرار المقدّسة لمن يحتاج إليها.
تعرّف بطرس إلى الآباء اليسوعيّين وهو يدرس في جامعة برشلونه، فأحبّ حياتها، وفَتَنَتْه رسالتُهم، وطلب الانضمام إليهم. فوافق الرؤساء على طلبه، وأرسلوه إلى دير الابتداء، وبعد أن أبرز نذوره الرهبانيّة، سافر إلى جزيرة مايوركا ليدرس الفلسفة.
الأخ البواب
كان الأخ ألفونس رودريغز اليسوعيّ يعيش في تلك الجزيرة ويعمل بوّاباً في مدرسة الرهبانيّة اليسوعيّة. وكان بطرس كلاڤر قد سمع أشياء كثيرة عن تقواه وقداسته وإلمامه في الإرشاد الروحيّ. فجعل يتردّد عليه. ويسمع إرشاداته ويدوّنها في كرّاسه الذي لم يفارقه طوال أيام حياته. وعُقدت بين الاثنين صداقة حميمة، فكانا يلتقيان يوميًّا للتحدّث في الأمور الروحيّة. وقد لاحظ الأخ ألفونس اشتياق بطرس للقداسة، ورغبته الشديدة في القيام بأعمال عظيمة لمجد الله الأعظم، فحدّثه عن العالم الجديد، أي القارّة الأمريكيّة المكتشفة حديثاً، عن أعمال المرسلين البطوليّة هناك، وقال له وقتئذ: “إنَّ بلاد رسالتك هي العالم الجديد، وهي رسالة عظيمة. فيا بنيّ الحبيب بطرس، لماذا لا تذهب أنت أيضًا إلى هناك، وتجمع شمل نفوس التائهين لأجل المسيح؟
وشعر بطرس، حين سمع هذا الكلام، بنار تتأجّج في داخله، وصلّى على هذه النيّة ليلي نهار، ثمَّ كتب إلى رئيسه الإقليميّ رسالة طلب منه فيها أن يرسله إلى العالم الجديد.
السفر إلى العالم الجديد
وافق الرئيس على طلب بطرس، وفي 15 نيسان (أبريل) 1610، رست سفينه سان بيير في ميناء كارتاجينا الكولومبيّ، ونزل منها المُرسلون الجدد. وراع بطرس أن في المرفأ مئات العبيد يسيرون والسلاسل تغلّ أقدامهم، وتفوح منهم رائحة كريهة، والنخّاسون يلسعون ظهورهم بالسياط. وظلّ هذا المشهد يشغل باله طوال الليل. وفي اليوم التالي، أخبر رئيسه بما يشغل فكره، فأعطاه الأب الرئيس كتاباً بعنوان “خلاص السود”، كتبه يسوعي من جماعة الدير يعمل في رعاية شؤون العبيد الذين يأتون إلى العالم الجديد. فأخذ بطرس هذا الكتاب، وقابل المؤلف، وسأله عن عمله الرسوليّ، فحدّثه عما يقوم به، ودعاه إلى العمل معه في أيّام الإجازة.
رسول العبيد
سافر بطرس إلى بُوغُتا، ودرس اللاهوت في كليّة اليسوعيين. وكان يقرأ الكتاب السابق في لحظات الفرغ، ويعيد قراءته دون ان يسأم منه. وفي العطلات الطويلة، يذهب إلى كارتاجينا، ويعمل في الرسالة مع العبيد. وحين رُسم كاهنًا يوم 19 آذار (مارس) 1616، عينّه الرؤساء رسولاً للعبيد بدلاً من الأب ساندوڤال الذي أقعده المرض. فقَبِل ذلك بفرح، وشعر بأنَّه يقدم على أمر جليل، ويسير في درب ضيّق تغطّيه أشواك الصعاب. ولذلك أتّخذ لنفسه شعارًا : “تكلّم قليلاً من الناس، وكثيراً مع الله…ابحث عن الله في كلّ الأشياء فتجده بالقرب منك”.
خادم العبيد
claver-04كان لمدينة كارتاجينا دور هامّ في تجارة العبيد. وكان يمرّ من ذلك الميناء حوالي عشرة آلاف عبد سنويًّا. ولا يمكن لأيّ كلام أن يصف حالة هؤلاء حين يصلون المرفأ. فبعد أن يتمّ اصطيادهم من أفريقيا، كما تُصاد الحيوانات، ويعرضونهم على تّجار النخاسة الأوربيّين. ويكدسون هؤلاء العبيد في المستودعات المظلمة، ويكبّلون أرجلهم وأرجلهم وأعناقهم بسلاسل ثُبِّتَتَ في جدران قاع السفينة. ولا يُسمح لهم بالصعود على ظهر المركبّ إلاَّ فترة قصيرة كلّ يوم إذا كان الطقس مشمساً. وهكذا كان العبيد يقضون غالبيّة أيّام الرحلة في ظلام المستودعات. وكانت رائحة البول والراز تملأ الأجواء، والأوبئة تتفشّى بينهم. وتعتبر الصفقة رابحة إذا لم يمت في السفر إلا ثلثهم.
مبشّر السود
جعل الأب كلاڤِر يذهب في صباح كلّ يوم إلى المرفأ، وينتظر وصول السفن، وفي يده سلّه مملؤة بالطعام، وفي اليد الأخرى عصا يعلوها صليب خشبيّ. وحين ترسو سفينة قادمة من أفريقيا، يسرع في الصعود على متنها، وينزل إلى عنابرها، ويعطي العبيد فاكهة أو أي شيء يؤكل، ويقبّلهم بمحبّة، ويعالج المرضى بينهم. وبسبب حرارة العنابر ورائحتها النتنة الكريهة لم يكن هناك من يستطيع المكوث فيها أكثر من خمس عشر دقيقة. أمّا الأب كلاڤِر فكان يبقى فيها ساعات وساعات، يضمّد جراح المصابين، ويقدّم لهم الماء القراح، ويغسل أجسادهم كم البراز العالق بها، ولم يكن أبدًا يخشى الإصابة بالعدوى.
كان يسهر كالأمّ على “أبنائه العبيد”. ويتفطّر قلبه ألماً عليهم. وحين يُنهي عمله معهم، يتجوّل في شوارع المدينة، ويطرق الأبواب، ويطلب من الناس صدقة، ليقدّمها “إلى إخوته الأفارقة”.
وبعد فترة من الزمن، جمع شيئاً من المال، واشترى به عبيدًا مسيحيين من مختلف القبائل، فأعتقهم وجعلهم معاونيه في التعلم المسيحيّ. فكان يزور أكواخ السود في المرفأ، أو في سوق النخاسة، ويعلن لهم بشارة الإنجيل مستعينًا بالمترجمين وبالصور التوضيحيّة. وحين يتقبّل واحدٌ منهم الإيمان المسيحيّ، يسرع في منحه سرّ العماد، وشهادة تثبت أنَّه صار مسيحيًّا، لعلّها تفيده في أن ينال بعض الرأفة من سيّده الجديد.
حمل أسقامنا وكفّر عن معاصينا
اجتاح وباء الطاعون مدينة كاراتاجينا والمناطق التي تجاورها، فهبّ الأب كلاڤِر لإغاثة المصابين، غير عابئ بخطورة الإصابة بالعدوى. وإذ كانت حياته كلّها تماثلاً مع المتألّمين، أصيب بالطاعون، ولزم الفراش. وعجز تماماً عن سماع الاعترافات وإحياء القدّاس. وحيث إنَّ آباء الدير انشغلوا في إسعاف المصابين، ومات كثير منهم بهذا الداء، استأجروا له عبدًا ليخدمه. فأساء العبد معاملته، وكان يضربه ويشتمه، ويتناول جزءًا كبيرًا من طعامه، وهو يتحمل ذلك بصمت، ويصلّي إلى الله، فيقول: “لتكن آلامي يا ربّ كفّارة عن خطايا بنيّ جنسيّ تجاه السود المساكين.”
وساء حاله كثيرًا، فنال سرّ مسحة المرضى. وعَلِمَ سكّان كارتاجينا بالنبأ، حضر آلاف العبيد والأسياد لزيارته. وتوفي الأب كلاڤِر يوم 8 أيلول (سبتمبر) 1654، وعندما أنتشر في المدينة نبأ وفاة الذي صيرّ نفسه عبدًا من أجل الملكوت، تجمّع العبيد أمام بوّابة الدير، وكانوا يبكون بكاءً شديدًا، ويقرعون صدورهم، ويصرخون ب عالٍ: “مات صديقنا الغالي”.
أعلن البابا ليون الثالث عشر الأب بطرس كلاڤِر اليسوعي قديسًا يوم 15 كانون الثاني (يناير) 1896. وفي سنة 1896 أعلنه نفس البابا شفيعاً للرسالة لدى العبيد. وقال في هذه المناسبة: بعد حياة سيدنا يسوع المسيح، لم تؤثّر في نفسي أيّة حياة أخرى مثلما أثّرت فيَّ حياة الرسول الكبير بطرس كلاڤِر. ويحتفل بعيده في يوم 9 أيلول (سبتمبر) من كلّ سنة.