بولس معلم للصلاة-خوري/مكرم قُزاح
بولس معلم للصلاة-خوري/مكرم قُزاح
لا يمكننا أن نحدّد جيدًا موقع صلاة المسيحيين وفرادتها في لاهوت القدّيس بولس، دون أن نربطها بسرّ الخلاص كاملاً، كما فعل الرسول نفسه، مشدّدًا على بادرة الآب، ووساطة الابن، وعمل الروح. بالواقع، إذا كان في إمكان المسيحيين أن يردّدوا الكلمات نفسها في صلاة يسوع، فذلك لأن الله الآب قد أرسل ابنه ليخلّصنا، جاعلاً منّا أولاده، ومعطيًا لنا روحه. فبادرة البنوّة هي في الواقع عمل الله الآب الذي يجعلنا بيسوع ابنه الحبيب، أبناءه، بسخاءٍ مجانيّ، لأننا بالنعمة صرنا أبناء الله (1قور 1/9؛ روم 8/29). ونصّ الرسالة إلى أهل غلاطية 4/4-7، يتميّز لا بالتشديد على بادرة الآب فحسب، بل أيضًا بتقييم دور الوساطة للمسيح في علاقتنا بالآب وبعمل الروح في قلوب المؤمنين. فالمؤمن، تحديدًا، وجوهرًا، هو الذي أصبح منذ الآن فصاعدًا في المسيح، وهو مدعو إلى أن يحيا من بنوّة المسيح، ومن رسالته، في الكنيسة، بقوّة الروح. ولذلك، فصلاة بولس هي كصلاة كلّ مؤمن، وفي الوقت عينه:
– صلاة الرائي المستغرق في تأمّله. – صلاة الرسول المُكبّ على رسالته. – صلاة المؤمن المشارك في اختباره. فلنستمع إليه، أوّلاً، يكلّمنا بكلّ بساطة عن صلاته، ويدعونا إلى مشاركته في الصلاة. عندما نقرأ رسائله نتأكّد أنّ صلاته هي صلاة كلّ آن. فهو يصلّي كما يتنفّس. فالصلاة هي متنفسه اليوميّ، ولا عجب في أن تكون رسائله كلّها موشاة بالصلوات: “قبل كلّ شيء، أشكر إلهي بيسوع المسيح من أجلكم جميعًا، لأنّ إيمانكم ينادى به في العالم كلّه. يشهد عليّ الله، الذي أعبده بروحي، بحسب إنجيل ابنه، أنّي أذكركم بغير انقطاع، ضارعًا في صلواتي على الدوام أن يتيسّر لي يومًا، بمشيئة الله، أن آتي إليكم” (روم 1/8-10). في هذه الأسطر القليلة، نرى كم كان بولس مجبولاً بالصلاة. فهو لا يعبّر عن نفسه إلاّ في الصلاة. كذلك أيضًا في ما يتعلّق بنصّ 1تس 2/3؛ 2/13 وفل 1/3-5، حيث نجد التعابير نفسها. وهذا لأن بولس يحيا في صلاة دائمة، وفق تعبير المزمور 109/4: “إنّي لستُ إلاّ صلاة”. ومن هنا كانت دعوته إلى المسيحيين ليعيشوا، هم أيضًا، في فعل شكر متواصل: “شاكرين دومًا لله الآب على كلّ شيء، باسم ربّنا يسوع المسيح” (أف5/20). أيضًا قول 2/6-7؛ 4/2-3. هكذا يظهر المستوى الأوّل لصلاة بولس؛ فهي أشبه بنسيج لحياته اليومية وعمله اليوميّ. إنّها في الوقت نفسه حياته الشخصيّة، بما فيها من يُسرٍ وعُسرٍ، من أفراح ومضايق، ومن نجاح وإخفاق. إنّها حياة الكنائس والمسيحيين جميعًا. إنّها المصير السري لمواطنيه اليهود، ومآلهم ومآل البشرية جمعاء. فالصلاة هي أكثر من رفيق لحياته، إنما هي حياته نفسها، المستنيرة بنظر الله، والحاضرة في همّ الكنائس، في شركة الإيمان بين جميع إخوته في المسيح يسوع.
1- صلاة الرائي المستغرق في تأمله: نظرة إلى يسوع إن أول نظرة لبولس مع المسيح قد عبّر عنها بصراحة: “مَن أنتَ، يارب؟”. تلك كانت ردّة الفعل الأولى لبولس المطروح على الأرض، على طريق دمشق. سؤاله هذا كان تعبيرًا عن حاجته إلى الدخول في شركة مع الذي أوحى إليه بنفسه بغتًة وبنوع مفاجئ. والجواب جاء أيضًا ساطعًا: “أنا هو يسوع الذي أنت تضطهده!” (أع 26/15). إن ذلك الوجه وتلك الصورة التي طرحته إلى الأرض، والتي استحوذت عليه، والتي لن ينفك شاخصًا إليها، هي صورة شخص مضطهد في أعضاء جسده الذي هو الكنيسة، ولكنها صورة مضطهد مجلبب بنور “يفوق لمعان الشمس” (أع26/13)، وقد لفّه هو بولس نفسه. لذا سيبقى واحدًا مع تلك الرؤيا، وواحدًا مع ذلك الجسد. ولن تكون حياته منذ الآن إلاّ تأمّلاً في ذلك الوجه، الذي سيبقى السر والقوة في تبشيره القائم بأن “يرسم أمام عيون العالم يسوع المسيح مصلوبًا” (غل3/1). وسوف يكتب إلى أهل قورنتس قائلاً: “قرّرت أن لا أعرف بينكم شيئًا إلاّ يسوع المسيح، وإيّاه مصلوبًا” (1قور 2/2). ولكن الرب يسوع قد أنهضه عن الأرض بهذه العبارة: “أنا هو يسوع الذي أنت تضطهده. ولكن قُم وقِف على قدميك، فقد تراءيت لك لأجعل منك خادمًا وشاهدًا على ما رأيتني فيه، وعلى ما سوف أتراءى لك فيه” (أع26/15-16).
ويضيف بولس: “من ذلك الحين، أيّها الملك أغريبا، ما عصيت الرؤيا السماوية” (أع26/19). بدون تلك الرؤيا، وبدون تلك النظرة وذلك التأمل، لا يمكن أن يكون ثمّة حياة صلاة، ولا حياة في الكنيسة، ولا رسالة. هكذا كانت الحال في العهد القديم؛ فكلّ رسالة نبوية كان أساسها رؤيا: فلا نبيّ ولا نبوءة بدون رؤيا سابقة: “يا ابن الإنسان، انظر بعينيك، واسمع بأذنيك، وانتبه لكلّ ما أريك إيّاه، فإنك لكي تراه أُتي بك إلى هنا، وكل ما تراه فأخبر به بيت إسرائيل” (حز40/4). في وجه هذا المسيح المصلوب والحيّ القائم، لم يكتشف بولس بتأمله، الغلبة على الموت فحسب، بل حفظ بعناية فائقة سرّ تلك الغلبة: حبّ الله لنا حتّى الجنون: “ابن الله أحبّني وبذل نفسه عني” (غل2/20). ولقد شدّد بولس على هذا الموضوع مرارًا في رسائله: “المسيح أحبّنا فبذل نفسه عنّا قربانًا وذبيحة لله” (أف5/2). هنا يتكلّم بولس في صورة الجمع. وأيضًا عن الكنيسة، التي هي جسد المسيح وعروسه: “المسيح أحبّ كنيسته، فبذل نفسه عنها” (أف5/25). “لقد مات المسيح عن الجميع، لكي لا يحيا الأحياء من بعد لأنفسهم” (2قور 5/15). نظير يوحنا، يرى بولس في محبّة يسوع الباذل حياته، صدى ونتيجة لمحبّة الآب “الذي لم يبخل بابنه، بل سلّمه إلى الموت من أجلنا” (روم8/32). في محبّة المسيح تتجلّى محبّة الآب بكامل بهائها: “أمّا الله فأثبت محبّته لنا بأننا، حين كنّا بعد خطأة، مات المسيح من أجلنا” (روم5/8). فالصلاة هي نظرة، وتولد من نظرة، فهي عمل العيون. في الرسالة إلى العبرانيين، يشير علينا الكاتب “أن نبادر ثابتين إلى الجهاد المُعَدّ لنا. ولننظر إلى رائد إيماننا ومكمّله يسوع” (عب12/1-2). إن هذا التأمّل في المسيح المصلوب، وهذه النظرة تثير لدى المؤمن قرارًا وجوابًا أي خيارًا. المحبّة تتطلّب المحبّة، والمحبّة المتأمّلة تصبح محبّة فعّالة ملتزمة: “كونوا مقتدين بالله كأولاد أحبّاء. واسلكوا في المحبّة كما المسيح أيضًا أحبّنا، فبذل نفسه عنّا قربانًا وذبيحة لله، طِيبًا ذكيّ الرائحة” (أف5/1-2). “إن محبّة المسيح تأسرنا، لأننا أدركنا هذا، وهو أن واحدًا مات عن الجميع، فالجميع إذًا ماتوا. لقد مات عن الجميع، لكي لا يحيا الأحياء من بعد لأنفسهم، بل للذي مات عنهم وقام من أجلهم” (2قور 5/14-15).
فالصلاة هي في الوقت نفسه أن نتأمّل، من خلال المصلوب، في محبة الآب ومحبّة الابن، وأن ننمّي في حياتنا، بقدرة الروح، المحبّة التي يجب أن تولَد من تلك النظرة: “لأن الذين ينقادون بروح الله هم أبناء الله. وأنتم لم تنالوا روح العبودية لتعودوا إلى الخوف، بل أخذتم روح البنوّة الذي به نصرخ: أبّا، أيّها الآب!” (روم 8/14-16). فتلك النظرة تضحي تطابقًا مع المسيح، فتتخذ الصلاة إذّاك عمقًا جديدًا: “فلست بعدُ أنا الحي، بل المسيح هو الحي فيّ، وإن كنت الآن حيًا في الجسد، فإني حي بإيمان ابن الله الذي أحبني وبذل نفسه عني. ولست أُبطل نعمة الله” (غل 2/20-21). فلا حاجة بعد إلى السؤال عمّا يجب أن يفعله، ولا حاجة بعد إلى الاهتمام في ما إذا كانت الحياة بعد أفضل أم الموت حالاً: “لكي يعظّم المسيح في جسدي بالحياة أو بالموت. فالحياة لي هي المسيح، والموت ربح لي” (فل1/20-21). “نحمل في جسدنا كل حين موت يسوع، لكي تظهر حياة يسوع أيضًا في جسدنا” (2قور 4/10). “فلا يزعجني أحد بعد الآن، لأني أحمل في جسدي سمات يسوع” (غل6/17). لقد أضحى بولس مذّاك جسدًا واحدًا مع رؤيته للمسيح.
2- صلاة الرسول المُكبّ على رسالته إن ما يجعل بولس رسولاً هو نداء الله الذي وقع في قلب هائم بحبه. وجواب بولس على ذلك النداء ستكون صلاته ورسالته في آن معًا. فلا فصل لديه بين الصلاة والرسالة، لأن الحياة بالنسبة إليه هي المسيح. ولن ينسى يومًا أن كل ما هو عليه، قد ناله من المسيح. ولذلك يقول: “بنعمة الله صرت ما أنا عليه، ونعمته عليّ لم تكن باطلة” (1قور15/10). وبالتالي، “فنحن لا نبشر بأنفسنا، بل نبشر بيسوع المسيح ربًّا” (2قور 4/5أ). إذًا فمهمة الرسول، هي أن يبشر بإنجيل يسوع المسيح، وهي أن يكرّس حياته له، وبنفس الحب أن يبذل نفسه لجميع الناس الذين يرسل إليهم: “نبشر بأنفسنا عبيدًا لكم من أجل يسوع” (2قور 4/5ب). ولا يمكن لأحد أن يكون رسولاً وعبدًا خادمًا إلا انطلاقًا من تأمل في هذا المسيح الذي يستولي على حياتنا بكليتها. تلك هي حال بولس: “قُم وقِف على قدميك، فقد تراءيت لك لأجعل منك خادمًا وشاهدًا على ما رأيتني فيه، وعلى ما سوف أتراءى لك فيه” (أع 26/16).
فالرسالة لا يمكنها أن تكتفي بالخدمة لا غير؛ فليست هي في نطاق الخدمة فحسب، بل تضحي أيضًا في نطاق الولادة، فتجعل من المؤمنين أولادًا في الابن؛ وهذا هو المبرّر لكلّ تبشير: “يا أولادي الذين أتمخّض بكم ثانية حتّى يُصوّر المسيح فيكم” (غل4/19). ولذلك سيشعر بولس في نفسه أنّه أب وأم في آن، عندما يكتب إلى أهل قورنتس قائلاً: “ولو كان لكم عشرات الآلاف من المربين في المسيح، فليس لكم آباء كثيرون، لأني أنا ولدتكم ببشارة الإنجيل في المسيح يسوع” (1قور 4/15). “مع أنّا قادرون أن نكون ذوي وقار، كرسل للمسيح، لكنّنا صرنا بينكم ذوي لطف، كمرضع تحتضن أولادها” (1تس2/7). وبعد بضع آيات، يتابع الرسول فيذكّرهم: “كيف كنّا نعامل كلاً منكم، كما تعلمون، معاملة الأب لأولاده، وكنّا نناشدكم، ونشجعكم، ونحثكم على أن تسلكوا مسلكًا يليق بالله، الذي يدعوكم إلى ملكوته ومجده” (1تس2/11-12). لذلك لا يمكننا أن نفصل صلاة بولس عن هذا الاهتمام اليومي الدائم بـ “جميع الكنائس” وبكل مؤمن: “عانيت التعب، والكدّ، والسهر مرات كثيرة، والجوع، والعطش، والصوم مرّات كثيرة، والبرد، والعُري! أضف إلى ذلك، ما عليّ من الأعباء كل يوم، والاهتمام بجميع الكنائس! من يضعف ولا أضعف أنا؟ ومن يقع في الخطيئة ولا أحترق أنا؟ وإن كان لابد من الافتخار، فأنا أفتخر بأوهاني! والله أبو ربنا يسوع، المبارك إلى الدهور، يعلم أني لا أكذب” (2قور 11/27-31).
فرسائل القديس بولس كلها مليئة بهذا التأكيد، يردّده دومًا أن الشركة الدائمة في الصلاة هي الروح لكل رسالة: 1تس 1/3؛ 2/13؛ 5/17؛ 2تس1/11؛ 3؛ 2/13؛ 1قور1/4؛ 2قور 2/14؛ فل1/3-4؛ روم 1/8-10. وليس في ذلك أيّ عجب! فهيامه الأوحد إنما هو المسيح، وبالتالي جسده الذي هو الكنيسة. أفما أحبها أيضًا المسيح وبذل نفسه لأجلها (راجع أف 5/25)؟ أفلم يكن بولس رسولاً “لكمال القديسين، ولعمل الخدمة، ولبنيان جسد المسيح، حتى نصل جميعًا- يهودًا وأممًا- إلى وحدة الإيمان ومعرفة ابن الله، إلى الإنسان المكتمل، إلى مقدار قامة ملء المسيح” (أف4/12-13)؟ وبالنسبة إلى بولس، خدمة الرسالة هي أيضًا من نطاق العبادة: “يشهد عليّ الله، الذي أعبده بروحي، بحسب إنجيل ابنه” (روم1/9). عبادة جديرة بالذي، لما ارتضى، فرزه منذ كان في بطن أمّه، ودعاه بنعمته، أن يعلن ابنه فيه، لكي يبشّر به بين الأمم (راجع غل 1/15-16). إعلان وتبشير: الإعلان في سبيل التبشير، كما يقول الرسول بولس: “بفضل النعمة التي وهبها الله لي، فصرت للمسيح يسوع خادمًا لدى الأمم، كاهنًا عاملاً لإنجيل الله، حتى يكون قربان الأمم مقبولاً عند الله مقدسًا في الروح القدس. إذًا فإن خدمتي لله فخر لي في المسيح يسوع” (روم15/15-17). لا يمكن الرسالة أن تخصب إلا “باستدعاء الروح القدس”. أجل، تأتي البادرة دومًا من الآب، والوساطة من الابن، أمّا الإكمال فهو فعل الروح القدس. ولقد فهم بولس ذلك فهمًا كاملاً، هو الذي صار قلبه بالمسيح موحّدًا. فبالنسبة إليه، الصلاة والرسالة، العبادة والخدمة، لن تكون بعد الآن إلاّ واحدًا “بقوّة الروح” (روم 15/19)، في خدمة جسد المسيح الواحد الذي هو الكنيسة.
3- صلاة المؤمن المشارك في اختباره ليست الصلاة، بالنسبة إلى الرسول بولس، واسطة مفضّلة يستعملها ليجعل عمله فعّالاً خصبًا؛ ولا هي بالأحرى واجب يقوم به بأمانة أو عن عادة؛ بل هي مشاركته نفسها مع المؤمنين، التي يحياها بدافع من حبّه الثالوثي الذي به يتحوّل كل شيء إلى نعمة: “نعمة الرب يسوع المسيح، ومحبة الله، وشركة الروح القدس معكم أجمعين!” (2قور13/13). إن صلاة بولس هي مشاطرة لإيمانهم ورجائهم، ومحنهم وآلامهم: “كل شيء هو من أجلكم، لكي تكثر النعمة، فيفيض الشكر في قلوب الكثيرين لمجد الله” (2قور 4/15). هكذا يعبّر بولس عن أعماق فؤاده وسرّ شغفه، كونه رسولاً. غير أنّ هذا السر لا يصدر عن بولس، بل يصدر عن عمل الرب يسوع بالروح القدس الحاضر في أعماق بولس. فبما أنّ الرب ساكن فيه، فذلك الشغف ساكن أيضًا في أعماقه، وكم كان يتمنى لو استطاع أن يُشركهم فيه هو بدوره: “إن محبة المسيح تأسرنا، لأننا أدركنا هذا، وهو أنّ واحدًا مات عن الجميع، فالجميع إذًا ماتوا. لقد مات عن الجميع، لكي لا يحيا الأحياء من بعد لأنفسهم، بل للذي مات عنهم وقام من أجلهم…
إذًا، إن كان أحد في المسيح فهو خلق جديد” (2قور 5/14-17، 15). هكذا تصبح الصلاة تجرّدًا جذريًا أمام الله وفي خدمة الناس، وانقلابًا جذريًا. في المسيح، لا يعود المؤمن يركّز على نفسه، بل يصير مستقطبًا بالله وبإخوته البشر. يسلّم نفسه كما هو إلى الله وبالتالي أيضًا إلى البشر، فيُشركهم في جوهر كيانه وحياته. وفي هذا التجرّد وهذا الانقلاب الجذري، تضحى صلاة بولس صلاة الإنسان الخاطئ الواعي لخطيئته والمسامح عنها. هو واعِ لقلبه ولقلب البشر، واع للشر الذي يضج في كل مكان ويلوث العالم بأسره: “الخير الذي أريده لا أفعله، والشر الذي لا أريده إيّاه أفعل” (روم 7/19). “إن الجميع قد خطئوا، وينقصهم مجد الله” (روم3/23). “إن الجميع، يهودًا ويونانيين، هم تحت الخطيئة، كما هو مكتوب: ليس بارٌ ولا واحد” (روم 3/9-10). هو واعٍ، لا يائس. بل هو متأكّد من “أنّهم يبررون مجانًا بنعمة الله، بالفداء الذي تمّ في المسيح يسوع” (روم 3/24)، وأنّهم مدعوون إلى العيش منذ الآن بقوة قيامته: “نحن الذين تعمّدنا جميعًا في المسيح يسوع، في موته قد تعمّدنا. إذًا فنحن بالمعمودية دُفنّا معه في الموت، حتى إننا كما أقيم المسيح من بين الأموات لمجد الآب، كذلك نسلك نحن أيضًا في الحياة الجديدة. فإذا صرنا وإيّاه واحدًا في موت يشبه موته، هكذا نكون أيضًا في قيامة تشبه قيامته… ونحن نعلم أن المسيح، بعد أن أقيم من بين الأموات، لن يموت من بعد، ولن يتسلّط عليه الموت أبدًا. فهو بموته مات عن الخطيئة مرة واحدة، وبحياته يحيا لله. كذلك أنتم أيضًا احسبوا أنفسكم أمواتًا عن الخطيئة، أحياء لله في المسيح يسوع” (روم6/3-5، 9-11).
وباختصار، الصلاة بالنسبة إلى بولس، هي تعبير عن كلّ ما هو عليه في سبيل الله وفي سبيل البشر، وهي أيضًا تعبير عن كلّ ما هو الله وما فعله في سبيلنا في يسوع المسيح، بقوّة الروح القدس. فإنّها صلاة حياته كلها، صلاة أفراحه ومتاعبه كلها، ولكنها بالأخصّ صلاة الابن، الذي يردّد فينا، بقوة الروح، صلاته يافعًا وطفلاً: “أبّا، أيها الآب”: “ولكن، لمّا بلغ ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة، مولودًا في حُكم الشريعة، لكي يفتدي الذين هم في حُكم الشريعة، حتى ننال البنوّة. والدليل على أنكم أبناء، هو أن الله أرسل إلى قلوبنا روح ابنه صارخًا: أبّا، أيها الآب! فأنت لم تعد عبدًا، بل أنت ابن، وإذا كنت ابنًا، فأنت أيضًا وارث بنعمة الله” (غل4/4-7). أجل، تلك هي نعمة الله وعمله في يسوع المسيح، وقد دُعي بولس ليكون له خادمًا وشاهدًا: “هذا السر الذي لم يُعرَف عند بني البشر في الأجيال الغابرة، كما أُعلن الآن بالروح لرسله القديسين والأنبياء، هو أن الأمم (=كل إنسان) هم، في المسيح يسوع، شركاء لنا في الميراث والجسد والوعد، بواسطة الإنجيل” (أف3/5-6).
ثم يتابع بولس تأمّله في هذا السر العظيم: “لكي تُعرَف الآن من خلال الكنيسة، لدى الرئاسات والسلاطين في السماوات، حكمة الله المتنوّعة، بحسب قصده الأزليّ الذي حقّقه في المسيح يسوع ربنا، الذي لنا فيه، أي بالإيمان به، الوصول بجرأة وثقة إلى الله” (أف 3/10-12). وهل نستطيع أن نختم هذه الاعتبارات حول الصلاة لدى القديس بولس، بأفضل من أن نجثو معه على الركبتين أمام الآب، الذي منه تسمّى كل أبوّة في السماوات وعلى الأرض؟ “لذلك أجثو على ركبتيّ للآب، الذي منه تسمّى كل أبوّة في السماوات وعلى الأرض، لكي يعطيكم بحسب غنى مجده أن تشتدوا بروحه، ليقوي فيكم الإنسان الداخلي، فيسكن المسيح بالإيمان في قلوبكم، وتكونوا في المحبة متأصلين ومؤسسين، لكي تقدروا أن تدركوا مع جميع القديسين ما العرض والطول والعلو والعمق، وأن تعرفوا محبة المسيح التي تفوق المعرفة، لكي تمتلئوا حتى ملء الله كله. “والله القادر أن يعمل وفق قدرته العاملة فينا ما يفوق كل شيء، أكثر وأبعد ممّا نسأل أو نتصوّر، له المجد في الكنيسة وفي المسيح يسوع، إلى جميع أجيال دهر الدهور. آمين” (أف 3/14-21).