ينقسم مثل الغني المترف المتنعّم ولعازر الفقير المُعدَم إلى قسمين، يمكن أن يُطلق على كل منهما عنوان خاصّ به. القسم الأول: الغني ولعازر (لو19:16-26) والقسم الثاني: الغني وإخوته الخمسة (لو27:16-31).
يُبرز القسم الأول وبطريقة مأسويّة قاطعة الدينونة الإلهية (19:16-26). يبدو وكأن لوقا يريد أن يبرز بوضوح شديد، وبدون أية مخففات أو تفاصيل، ما كان قد أشار إليه في “التطويبات” (لو20:6-26) “الويل لكم أيها الأغنياء فقد نلتم عزاءكم، الويل لكم أيها الشباع الآن فسوف تحزنون وتبكون” (لو24:6-25).
أمّا القسم الثاني، فيتناول موضوع التوبة والإصغاء لكلام الكتاب المقدس (27:16-31). القاسم المشترك بين القسمين هو موضوع الغنى الذي أدّى إلى وضع هذا المثل في سياق الفصل السادس عشر، وبالفعل فإن موضوع هذا الفصل هو الأخطار التي تهدّد حياة الأغنياء.الغني والفقير يفتتح المشهد صورتان متناقضتان للغاية.
غني يتنعم: كل ما يهمه من الحياة هو ارتشاف السعادة حتى الثمالة. إنه يسبح في الرخاء والبحبوحة والملذات.
أمّا لعازر فإن العوز يقتله: إنه مُلقى، واهن، مريض، غير قادر على الحركة، لدرجة أنه لا يستطيع أن يبعد الكلاب الضالة التي تضايقه. الفقير الذي ينتظر ويتسول على باب الغني ليس بالشيء النادر في الشرق قديمًا لا بل والآن أيضًا. أمّا القصر، قصر الغني، فتُقام فيه المآدب: يلجأ الغني إلى لبّة الخبز لكي يمسح بها يديه وينظفهما من دسم الطعام، ثم يلقيها تحت المائدة. كانت هذه عادة منتشرة آنذاك. كان لعازر على استعداد لأن يكتفي بقطع “اللبات” هذه. ما كان هناك من يشعر به.
لا يهدف المثل فقط إلى إبراز التناقض بين الغني والفقير. إنه من المدهش أن يكون كلاهما جارين، ولكن الغني لا يشعر إطلاقًا بوجود لعازر. انقلاب الأوضاع بعد أن حدّد النصّ ملامح البطلين ووصفهما، يواصل روايته قالبًا الأدوار: يتنعّم الفقير في أحضان إبراهيم، يعاني الغني في جهنم العذابات والآلام. يراعي يسوع المسيح في وصفه لعالم الأموات عقلية معاصريه، فيلجأ إلى الصور الشائعة لديهم عنه. لا تقوم قوة المثل بكل تأكيد في هذا الجانب، كان يسوع في صراع دائم مع مفاهيم الربيين التي كانت سائدة آنذاك، كانت تضمن لكل أبناء إبراهيم السعادة والخلاص.
يؤكّد يسوع، وبكل وضوح، أن إبراهيم لا يتعرّف على بعض اليهود، بالرغم من ادعائهم أنهم أبناؤه. كان معلمو اليهود، معظمهم إن لم يكن كلهم، يعتقدون أن مكانة إبراهيم واستحقاقاته العظيمة تنعكس على كل أفراد نسله من بعده، ويستطيع أن ينقذهم حتى وإن كانوا في جهنم: إنه ينقذ كل بني إسرائيل، باستثناء بعض المجرمين، ويخرجهم يومًا ما من جهنم. يرفض يسوع هذا الرأي: إنه يؤكّد في كل مناسبة، أنه لا يكفي المرءَ الانتماءُ لسلالة إبراهيم، لكي ينال الخلاص. سلوك الإنسان وحياته وإيمانه وحدهم يحدّدون الخلاص. كما كانت هناك نقطة جدال أخرى. كان الاعتقاد السائد أن كل إنسان ينال في الحياة ما يستحقه سواء كان غنًى أو فقرًا. كان الغني، في اعتقادهم، هو مكافأة من الله الجوّاد. عارض يسوع هذا الرأي أيضًا: إنها ينادي أن الله ينحاز دائمًا إلى الفقير والضعيف والمرذول والمهمّش. يضرب المثل بجذوره ويتأصّل في مفاهيم بني إسرائيل الحكمية القديمة. يرد في كتاب حكمة سليمان وصف مطوّل في صورتين متناقضتين: يتم في المشهد الأول عرض استغلال الأشرار للمستقيمين واحتقارهم لهم، ثم تنقلب الآية.
إنهما مشهدان متناقضان متضادان، يهدفان لتشجيع المستقيمين وتثبيتهم في وضعهم الذي يبدون فيه وكأن الناس أهملوهم، لا بل والله أيضًا.
يرد المشهد الأول في الفصل الثاني: “فإن أيامنا مرور الظل ونهايتنا بلا رجعة… فتعالوا نتمتع بالطيبات الحاضرة وننتفع من الخليقة بحمية الشباب . لنسكر من الخمر الفاخرة والعطور ولا تفتنا زهرة الربيع ولنتكلل ببراعم الورد قبل ذبوله. لنترك في كل مكان علامات ابتهاجنا فإن هذا حظنا ونصيبنا. لنظلم البار الفقير ولا نشفق على الأرملة ولا نهب شيبة الشيخ الكثير الأيام. بل لتكن قوتنا شريعة العدل، فإنه من الثابت أن الضعف لا يجدي نفعًا” (حك 5:2-11).
ولكن سرعان ما ينقلب الوضع: “حينئذ يقوم البار بجرأة عظيمة في وجوه الذين ضايقوه واحتقروا أتعابه. فإذا رأوه يضطربون من شدة الجزع ويذهلون من خلاص لم يكونوا يتوقعونه. ويقول بعضهم لبعض نادمين ونائحين من ضيق صدورهم: “هوذا الذي كنّا حينًا نجعله ضحكة وموضوع تهكم، نحن الأغبياء! لقد حسبنا حياته جنونًا وآخرته عارًا. فكيف أصبح في عداد بني الله وصار نصيبه مع القديسين؟… فماذا نفعتنا الكبرياء؟ وماذا أفادنا الغنى الذي كنّا نفتخر به؟ قد مضى كله كالظل وكالخبر الذي يمرّ بسرعة أو كالسفينة الجارية على الماء المتموج الذي لا تجد أثر مرورها ولا خط بدنها في الأمواج” (حك 1:5-5و 8-11).
يجمع بين المثل ونص كتاب الحكمة انقلابُ الحال: تغلب الدينونة الإلهية الأوضاع، وتكذّب توقّعات البشر وأحكامهم العقيمة السطحيّة. ولكن هناك فرق. يتناول كتاب الحكمة أغنياء لاهين وأشرارًا يظلمون البار ويحتقرونه: إنه يجمع بين الغنى والعنف. أمّا مثل الغني ولعازر فإنّه يتكلم فقط عن الغنى. لهذا السبب فإن المثل هو أكثر صرامة من نص العهد القديم وأكثر تشكّكًا في الغنى. لا يُحكَم على الغني لأنه كان عنيفًا وظالمًا، إنما يحكم عليه لأنه عاش حياة الترف دون أن يشعر بالفقير، أو لأنه تجاهل وجوده. عندهم موسى والأنبياء تكتمل الفكرة السابقة في القسم الثاني من المثل (لو27:16-31)، حيث يظهر إخوة الغني الخمسة في الصورة. إنهم يواصلون الحياة كما عاش أخوهم من قبلهم، واضعين كل ثقتهم وآمالهم في الغنى. نمط الحياة هذا هو الذي يعميهم عن الفقير، بالرغم من قربهم منه، وعن الكتب الواضحة والصريحة نصوصها. لا يعادي الغني الله ولا يضطهد الفقراء: إنه لا يراهم! هذا هو أكبر مخاطر الغنى، وهذا ما يهدف المثل أن يُحذّر منه. يريد الغني أن يُحذّر إخوته. ولكن ما الجدوى من التحذير؟ عندهم موسى والأنبياء، وبالتالي لا ينقصهم شيء! لا تنقصهم الأصوات، إنما تنقصهم حرية باطنية، قادرة على الفهم والوعي، وتعوزهم قوة الإبصار. حياة الغنى أعمتهم!