ملاحظات حول هجرة المصريين في الفترة الأخيرة
ملاحظات حول هجرة المصريين في الفترة الأخيرة- الأنبا يوأنس زكريا مطران إيبارشية الأقصر
مقدمة:
شرّفني وكلّفني غبطة البطريرك الأنبا أنطونيوس نجيب بتحضير هذه الدراسة، التي اخترت لها عنوان “ملاحظات حول هجرة المصريين في الفترة الأخيرة”، لتقديمها ومناقشتها في اجتماع مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك بمصر، دورة أبريل 2007، ونظرًا لأهمية وفائدة هذه الدراسة فإني أقدمها لقرّاء مجلة صديق الكاهن الأعزاء، راجيًا أن يجدوا فيها بعض المعلومات القيّمة حول الإلمام بموضوع الهجرة.
ولمزيد من التبسيط والتوضيح، أقدم هذه الدراسة تحت البنود التالية:
01 تاريخ الهجرة.
02أسباب الهجرة.
03تأثير الهجرة.
04 توصيات ختاميّة عمليّة.
أولاً: تاريخ الهجرة
مرّت ظاهرة الهجرة بمصر بمراحل مختلفة، ارتبطت بالظروف السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، التي عاشتها مصر وبلاد الشرق الأوسط والبلاد الأوروبية؛ كما نرى في النقاط التالية:
أ. هجرة الشرقيين والغربيين إلى مصر:
خلال حكم الدولة العثمانية (1517- 1789)، كانت الحدود الجغرافية بين أوطان الشرق الأوسط آمنة ومتفتّحة، ولم تكن هناك أدنى قيود على حرية انتقال الأفراد بين البلاد. وكانت مصر، لموقعها الجغرافيّ المتميّز بين الشرق والغرب، محط أنظار الجميع، وموضع الهجرة المفضّل عند التجّار الشرقيّين (المسيحيّين والمسلمين) والغربيّين؛ ومع بدء تنشيط الحركة التجاريّة وتبادل السلع والبضائع بين بلاد أوروبا وبلاد الشرق والهند، ازدادت ونمت هذه الهجرة. في هذا العصر استوطن بمصر العديد من المهاجرين الشرقيّين، القادمين من بلاد: لبنان، فلسطين، سوريا، العراق، تركيا، إيران؛ والكثير من المهاجرين الغربيّين، الوافدين من بلاد: قبرص، اليونان، ألبانيا، ايطاليا، فرنسا، انجلترا.
في عهد محمد علي باشا (1769-1849)، وأثناء حكم أبنائه، وخاصّة الخديوي إسماعيل، انفتحت مصر على النهضة والثقافة الأوربيّة، وبدأت تتحقّق فيها مشاريع التجديد والتعمير في مجالات التعليم والصناعة والزراعة والري؛ فنشطت الهجرة الأجنبيّة إليها، وتضاعف عدد المسيحيّين الشرقيين بمصر، ومنهم تكونت الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة، كما تزايد عدد المسيحيّين الغربيّين، ومنهم تكوّنت الكنائس اللاتينيّة والبروتستانتيّة.
ب. هجرة الشرقيّين والغربيّين من مصر:
بعد الحرب العالميّة الأولى (1914-1918)، ارتفعت حدّة التوتر بين الغرب والشرق، وتفجّرت الصراعات القوميّة والنزاعات الإقليميّة بين الشعوب والدول، وبالتالي صارت طرق السفر والنقل غير آمنة، ووضعت القيود على ارتحال الأفراد؛ فضعفت ظاهرة هجرة الشرقيّين والغربيّين إلى مصر، وبدأت تقل أعداد الوافدين إليها.
بعد الحرب العالميّة الثانيّة (1939-1945)، بدأ تحقيق مشروع مارشال لنهضة اقتصاد الدول الأوروبيّة وتعمير مدنها، وتسلّطت الأضواء الإعلاميّة وأبواق الدعاية الصحفيّة على أمن وخيرات وتقدّم بلاد العالم الجديد، خاصّة أمريكا الشماليّة واستراليا، كما تقدّمت وتنوّعت طرق السفر والمواصلات، وتطورت فيها وسائل الأمان والراحة. ساعدت هذه العوامل على جعل ظاهرة هجرة الشرقيّين والغربيّين إلى مصر تتخذ وضعًا عكسيًا، فبدأت أول مراحل الهجرة من مصر إلى بلاد أوروبا والعالم الجديد.
عقب قيام الثورة المصرية (23 يوليو 1952)، وعلى إثر تغيير النظام الملكي وإعلان الجمهورية، غادر مصر بعض أصحاب الأعمال من الشرقيّين والغربيّين. وعندما بدأت الثورة، قبل وبعد حرب السويس (1956)، في تطبيق القوانين الاشتراكيّة، وتأميم المصانع والبنوك والشركات، ومصادرة الثروات والممتلكات، وتحديد ملكية الأراضي الزراعيّة، انزعج من هذه الإجراءات معظم الشرقيّين والغربيّين وبعض المصريّين، وشعروا بأن المستقبل في مصر لم يعد في صالحهم، فأخذوا يبحثون عن الأمان والاستقرار بالخارج، وبالتالي بدأت هجرتهم إلى بلاد الحريّة والديمقراطيّة.
كانت القاهرة والإسكندريّة، وبعض مدن الدلتا والصعيد، زاخرة بالشرقيّين والأوروبيّين، وتضم أحياؤها العديد من أسرهم وأفرادهم؛ ولكن للأسباب السابقة هاجر الكثير منهم لبلاد الانتشار، وتبقّت الأعداد القليلة، التي استطاعت أن تتمصّر وتذوب في المجتمع المصريّ.
ج. هجرة الأقباط من مصر:
يتميّز القبطيّ بتمسّكه الشديد بإيمانه وحبه لكنيسته وتعلّقه بطقوسها وتقاليدها، كما يتميّز بارتباطه القويّ بأرضه وولائه لوطنه، وبطبيعته يميل للاستقرار في بلاده، ولا يفضّل الهجرة أو مغادرة موطن رأسه؛ لذلك بدأت ظاهرة هجرة الأقباط إلى خارج مصر في وقت متأخر نسبيًّا بالمقارنة مع شعوب أخرى مجاورة.
بدأت الموجة الأولى لهجرة الأقباط من مصر في منتصف الخمسينيات، بعد ثورة 1952 وحرب السويس 1956؛ وكانت هذه الهجرة قاصرة على الطبقة العليا لأسر كبار الرأسماليّين والتجاريّين والأكاديميّين، الذين لم يتفاعلوا مع الثورة المصريّة، واعتقدوا بأنها تتّخذ موقفًا سلبيًا ضدّهم، وأن قوانينها الاشتراكيّة وقرارات التأميم ومصادرة الممتلكات، تسلب حقوقهم وأعمالهم ومشروعاتهم، وتقضي على كل أمالهم وطموحاتهم المستقبليّة.
بعد حرب 5 يونيو 1967، تحت تأثير صدمة النكسة، ونتيجة للتعبئة السياسيّة والعسكريّة، والقيود والمضايق الأمنيّة، والأزمات الاقتصاديّة، تعرّض الأقباط لعراقيل ومتاعب في العمل والوظائف بسبب انتمائهم الديني؛ فبدأت الموجة الثانيّة من هجرة الأقباط، وشملت هذه الهجرة فئات المثقفين وأفراد وعائلات الطبقة الوسطى.
بعد حرب 6 أكتوبر 1973، أسقطت الدولة المصريّة تأشيرة الخروج وطلب الإذن بالسفر، وألغت كافة القيود المفروضة على سفر وهجرة المصريّين، وأبطلت سياسة الحزب الواحد، وأطلقت جزئيًا حريّة الصحافة، وحرّرت النظام الاقتصاديّ والتجارة الداخليّة والخارجيّة من كل العوائق والاشتراطات. هذه التغييرات المفاجئة في السياسة والاقتصاد فجّرت الصراع بين الرأسماليّة والاشتراكيّة، وأنمت التخبّط السياسيّ بين اليمين واليسار، مما أدّى إلى زعزعة نظام الحكم، وخلخلة وقلب الاتزان بين طبقات المجتمع المصريّ. ومن أجل انتصار تيار الانفتاح اليمينيّ الحكوميّ على التيار الناصريّ الاشتراكيّ اليساريّ، ساهمت بعض قيادات وسلطات الدولة، بطريقة غير مباشرة، في تذكية وتشجيع الاتجاه الإسلاميّ، الذي أدّي بدوره إلى تصاعد الأصوليّة الإسلاميّة وأعمال العنف وانتهاك حقوق الأقباط.
ساعدت هذه العوامل على بدء الموجة الثالثة من هجرة الأقباط، والتي مازالت مستمرة حتى هذا اليوم. شملت هذه الهجرة الأعداد الغفيرة من عامّة الأقباط، وتضمّنت العائلات والشباب من كل ربوع القرى والمدن المصريّة، الذين هاجروا بحثًا عن الأمان والاستقرار، وفرص العمل والحياة الأفضل. وقد ساهمت هذه الموجة في تكوين الجاليات القبطيّة الأرثوذكسيّة، وافرة العدد، التي استوطنت ببلاد المهجر بصفة دائمة، وتجنّست بجنسيات هذه البلاد. كما هاجر العديد من الأقباط للعمل في البلاد العربيّة، خاصّة قبل الحروب التي تعرّضت لها مؤخرًا منطقة الشرق الأوسط، وتمركزت أعدادهم الكثيرة في العراق والكويت ولبنان؛ ولكن هذه الهجرة مؤقتة ومحدّدة المدة، ومرتبطة بشروط خاصّة حسب عقد العمل؛ كما أن القوانين المرعية لهذه الدول لا تسمح لغير مواطنيها بالاستيطان الدائم، ولا بالتجنّس بجنسيتها. حاليا، تبلغ نسبة الأقباط المهاجرين والمقيمين خارج مصر، ما بين 5- 7 %، من جملة تعدادهم الإجمالي، ويتراوح عددهم بنحو سبعمائة ألف نسمة؛ وتتمركز جالياتهم كثيرة العدد في دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكيّة واستراليا وكندا والكويت.
د. هجرة المسلمين المصريين من مصر:
تنطبق دوافع وأسباب الهجرة من مصر لبلاد الانتشار، التي ذكرناها سابقًا والخاصّة بالأقباط، على كل أفراد وأسر المجتمع المصريّ، ومن بينهم المصريّون المسلمون؛ ولكن تضافرت أسباب أخرى في تفعيل هجرة المصريّين المسلمين ، بحثًا عن فرص أفضل للعمل وظروف أحسن للحياة، نذكر من بينها: التغييرات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وما صاحبها من مضايق واضطرابات، مثل الأزمات الاقتصاديّة، وغلاء الأسعار، وارتفاع مستوى المعيشة، وتضاعف عدد السكان، وانتشار البطالة، وانقلاب هرم الطبقات الاجتماعيّة.
بدأت هجرة المصريّين المسلمين عن طريق الدولة المصريّة، التي تختار سنويًا بعض الأطباء والمهندسين والمدرسين والموظفين والعمّال وأصحاب الحرف، وترسلهم للعمل في الدول العربيّة والإسلاميّة والأفريقيّة، حسب نظام البعثات والمساعدات المصريّة لهذه الدول، أو حسب نظام الإعارة والاستجابة لاحتياجات وطلبات العمل الخاصّة بتلك الدول. جدير بالملاحظة أن أكثرية مَن تختارهم الدولة هم من المصريّين المسلمين، وذلك إما لطبيعة العمل (كتدريس الدين الإسلاميّ واللغة العربيّة والعمل في مجال الدعوة الإسلاميّة)، أو استجابة لاشتراطات بعض الدول العربيّة والإسلاميّة. لكن تنظيم الدولة المصريّة لهجرة المصريّين لم يكن كافيًا لتلبية تطلّعات كل الراغبين في الهجرة، لذلك بدأ الأفراد يبحثون عن طرق أخرى كفيلة بتحقيق أمنيتهم. في البداية اتجهت هجرة المصريّين المسلمين ، وخاصّة فئات العمّال والفلاحين والموظّفين، إلى البلاد العربيّة، وذلك لوفرة فرص العمل والمشاركة في الدين واللغة؛ ثم اتّجهت، مع أبناء الطبقة الثريّة والمثقّفة، إلى بلاد أوروبا وأمريكا واستراليا، وذلك رغبةً في المزيد من الحريّة والرفاهيّة والثراء.
حاليا، تبلغ نسبة المصريّين المسلمين المهاجرين المقيمين خارج مصر، ما بين 10 – 15% من جملة تعدادهم الإجماليّ، ويتراوح عددهم بنحو سبعة ملايين نسمة؛ وتتمركز جالياتهم وفيرة العدد في المملكة العربيّة السعوديّة ودول الخليج العربيّ، والبلاد الأوروبيّة والولايات المتّحدة الأمريكيّة وكندا واستراليا.
هـ . هجرة الأفارقة والآسيويين لمصر:
صارت ظاهرة الهجرة، في السنين الأخيرة، تشمل كل بلاد العالم ومختلف الأجناس. تحت تأثير الحروب والنزاعات الإقليميّة بين الدول والصراعات السياسيّة والقوميّة بين الشعوب، أخذت ظاهرة الهجرة بعدًا جديدًا يتضمّن أعدادًا كبيرة من المهاجرين المضطّرين للهجرة، وترك أوطانهم وديارهم، نتيجة هذه الحروب، ويحمل هؤلاء المهاجرين اسم النازحين واللاجئين. وهكذا أصبحت معظم بلاد العالم إما طاردة لمواطنيها فيهاجرون منها طلبًا للأمان والاستقرار، وإما مضيفة لمواطني البلاد الأخرى، حيث يجدون فيها السلام والحياة الأمثل.
تُعتبر مصر، بلدنا الحبيب، مثالاً لهذه الظاهرة العالميّة، فأبناؤها يهاجرون منها لبلاد الانتشار، بحثًا عن مستقبل أفضل، وفي نفس الوقت تفتح أبوابها لاستقبال أبناء الدول المجاورة والبعيدة، الذين يلجأون إليها هربًا من المضايق والمشاكل التي تعاني منها بلادهم. في الماضي البعيد استقبلت مصر الأعداد الغفيرة من اللاجئين من فلسطين؛ وفي السنين الأخيرة، استقبلت مصر، ومازالت تستقبل، الآلاف من اللاجئين من جنوب السودان؛ كما تستقبل الكثير من المهاجرين، الذين يبحثون عن العمل وزيادة الدخل الماديّ من نيجيريا ومالي وتشاد وباكستان وسيرلانكا والفلبين…إلخ.
حاليًا، يوجد بمصر أعداد كثيرة من المهاجرين واللاجئين من بلاد العالم، يُقدّر عددهم بثلاثة ملايين تقريبًا، ويستوطنون بالقاهرة والإسكندريّة وبعض مدن المحافظات الأخرى، ويعمل معظمهم في الخدمات المنزليّة والتجاريّة والزراعيّة. الجاليات الأكثر عددًا لهؤلاء المهاجرين هي الجالية السودانيّة والجالية الفلبينيّة وجاليات البلاد الأفريقيّة والآسيويّة المختلفة. جدير بالذكر إن بعض هؤلاء المهاجرين واللاجئين يستوطنون بمصر لفترة محدودة، ثم بواسطة مكتب اللاجئين التابع للأمم المتّحدة، يهاجرون رسميًا لبلاد الانتشار، والبعض الآخر يستقر بمصر ويعيش ويعمل فيها، لفترات طويلة، وبعد ذلك قد يعود لمسقط رأسه أو يستوطن دائمًا بمصر.