ثالثاً: التفكير اللاهوتي
1) ماهية الرجاء
الرجاء هو الفضيلة الإلهية الثانية التي يفيضها الله في نفوسنا لدى قبول سرّ العماد، بها نأمل ونتوقع من الله بثقة، استناداً إلى وعوده الصادقة وإلى استحقاقات سيدنا يسوع المسيح، أن نفوز بعد مماتنا بالسعادة الأبدية وأن ننال من رحمة الله في هذه الحياة كل الوسائل الضرورية لتأمين خلاصنا الأبدي. بالرغم من أن الأعمال التي نقوم بها بدافع المحبة الصافية لله هي لإكمال الأعمال إلا أن تلك التي نقوم بها طمعاً بالمكافأة الأبدية ليست سيئة.
أ- براهين كتابية:
– »فسابقوا حتى تفوزوا… أما أولئك فلينالوا إكليلاً يفنى وأما نحن فإكليلاً لا يفنى« (1قور 24:9-25).
– »فافعلوا للرب عالمين بأنكم ستأخذون من الرب جزاء الميراث« (قو24:3).
– »نئن منتظرين التبني، افتداء أجسادنا« (روم 23:8).
ب- أدان المجمع التريدنتيني مَن يقول بأن القيام بالعمل الصالح ابتغاء للمكافأة هو عمل شرير.
ج- براهين عقلية:
– – إن جودة وصلاح أي عمل ينبع من موضوعه. وبما أن موضوع الرجاء هو الله فإن الرجاء هو فضيلة ترضي الله.
– إذا كنت أحب الله لأنه خيري وكنزي لا يعني أني أنكر صلاحه في ذاته. لا تتنافى المحبة مع الرجاء.
– ولا تتناقض بين كون الله محبوباً من أجل ذاته ومحبوباً لأنه خيري وعزائي وسبب كمالي وعلة خلاصي.
– أما إذا أحببت الله فقط من أجل المكافأة وبدونها ما كنت أحببته، فإن ذلك يعني تمسّكي بالخطيئة.
قال توما الإكويني: »إن الله هو موضوع إيماننا بصفة كونه الحقيقة القصوى، وموضوع محبتنا لكونه الخير الأسمى، وموضوع رجائنا لكونه المكافأة العظمى«.
2) علاقة الرجاء بالإيمان والمحبة
الثلاثة معاً تكوّن الفضائل الإلهية التي تنظّم علاقة الخالق بالخليقة وتشكّل الوسيلة التي بها يستطيع الإنسان أن يعيش مع الله حياة اتحاد روحي ومودة كبيرة. ويقف الرجاء بين الإيمان والمحبة كما تتوسط الأخت الصغيرة أختيها الكبيرتين ممسكة أيديهما. »فالإيمان قوام الأمور التي ترجى وبرهان الحقائق التي لا تُرى« (عب 1:11). ودرجة رجائنا تتأثر بدرجة إيماننا بقدرة الله وأمانته ورحمته.
الرجاء يوصلنا إلى عتبة المحبة. فالرغبة في امتلاك المحبوب تضاعف قوة المحبة في قلب الإنسان. والمحبوب هو الله، والسعادة الأبدية هي امتلاك الله بالعيان. وبدورها فإن المحبة تقوّي الرجاء: »فمحبتنا الحالية لله الذي لا نراه تزيد فينا الرغبة في رؤيته«.
3) ضرورة الرجاء
لا يخلص الإنسان بدون الرجاء. فكيف ننال العفو إن لم نرجو العفو؟ وكيف ننال السعادة الأبدية ونتغلّب على الصعوبات التي تعترض سبيلها إن كنا لا نرجوها؟ لذلك أمر الكتاب المقدس بها: »سابقو أنتم حتى تفوزوا. أما أولئك فلينالوا إكليلاً يفنى وأما نحن فإكليلاً لا يفنى« (1كور 25:9-27). »لا تحزنوا كمن لا رجاء لهم« (1تس 12:4). »وصي أغنياء الدهر الحاضر ألا يتكلوا على الغنى الغير ثابت بل على الله الحي الذي يؤتينا كل شيء بكثرة لنتمتع به«(1تيم 17:6). ومن الضروري أن يعلن المسيحي عن رجائه مباشرة في المواقف الهامة، عند التجارب وساعة الموت، وضمناً عندما يعمل الأعمال الصالحة. » لا أحد يذهب إلى الآب، قال الإكويني، ما لم يرجُ شيئاً منه«.
4) الرجاء من وجهة نظر الفلسفة المعاصرة
ليست الفلسفة المعاصرة في أغلب نظرياتها مشجعة للرجاء المسيحي. بل بالعكس تقاومه وتحقره. ورغم سلبية كل ذلك إلا أن المسيحي يستطيع الإفادة من النقد ليصلح من ذاته حيث لزم الإصلاح. والانتقاد الأول هو أن الرجاء المسيحي وهمي، فردي وأناني، ولذلك لزم البحث عن رجاء عام ملموس وحقيقي.
أ- نيتشه: الرجاء المسيحي هو فضيلة الضعفاء.
»المسيحي لا يضرّ ولا ينفع وهو متهور على أمره. هو غريب عن شغل الأرض إذ أن سيرته في السماويات. وعندما يضع المسيحي نقطة الاستناد في العالم الآخر فإنه ينزع من الحياة مركز ثقلها فتنتهي الحياة حيث يبدأ ملكوت الله«(نيتشه، إرادة القوة). وقد بلغ نيتشه مبلغ الإلحاد عندما أعلن موت الله وأن الإنسان هو الذي قتله ليأخذ مكانه. فنادى بالإنسان »السوبرمان«. ومن المضحك المبكي أن نيتشه انتهى نهاية غير موافقة لنظرياته. هو الذي نادى بالسوبرمان كان يبكي من الحزن والتأثّر على حيوان يراه في الطريق.
ب- الوجودية الملحدة:
تدعو الإنسان إلى نبذ الأمل لأنه غير حقيقي ولأنه لا يوجد هدف لأعمالنا وبالتالي لا مكافأة تُنتظر. ومعنى الكلمة في قاموسها هو العبث واللامعقول، فلا مكان لله بين البشر »إذ أن الحياة هي قضية بشر ويجب معالجتها بين البشر أنفسهم «أي بدون تدخّل الله (من أسطورة سيزيف، ألبير كامو).
ج- الماركسية:
فقد وجدت البديل للرجاء المسيحي وهذا البديل هو مادي محسوس يقوم على بناء مدينة المستقبل وإيقاظ الغضب ضد الظلم (باكونين). فنادت الماركسية بالعلم والتقدّم والمستقبل وبالتحرير الاقتصادي والاجتماعي. وادّعت أن العقبة أمام تحقيق ذلك هي الديانة المسيحية لأنها تعلّق الأمل على مدينة آتية وغير موجودة وتبعد الانتباه عن بناء المدينة الحاضرة. وتريد الطبقة البرجوازية بذلك أن تسحق وتخدّر الطبقة الكادحة (لينين). في الماركسية الإنسان للإنسان هو الله والمسيح المنتصر.
د- الجواب:
لم تفِ الماركسية بتعهداتها. وبدلاً من دكتاتورية البرجوازية ولدت دكتاتورية الحزب والدولة. ولم تعد الدولة تمثّل الشعب وخير برهان هو ما حدث مؤخراً في المعسكر الشرقي، في روسيا وفي أوروبا الشرقية. وكما في البلاد الرأسمالية فإن الأموال تصرف في التسلّح. ولم يعد الشعب يتمتع بالثروة الموعودة، ومازال يكتفي بالمواعيد. ولا شك أنه تمّ تحسّن ملموس. ولكن أين ذلك من المجتمع المثالي الموعود والحريات المثالية التي تنادي بها الماركسية؟. ماذا ينفع الإنسان إذا حررته من الله وتركته وحيداً ساعة الموت؟ أليس ذلك شبيهاً بمرافقة إنسان محكوم عليه بالموت إلى ساحة الإعدام والترفيه عنه طيلة الطريق ثم تركه وحيداً يعاني حشرجة النزاع؟ وملخص الجواب: إن قتل الله يعني قتل الإنسان وإن الإلحاد واللاإنسانية هما وجهان متكاملان لنفس العملة.
5) صحة بعض الانتقادات
ربما استحق الكثير من المسيحيين- ونستثني منهم القديسين والذين خدموا البشرية وساهموا في بناء الحياة الحاضرة مع إيمانهم بالمستقبل- الانتقادات السالفة وذلك:
– لإهمالهم شئون الدنيا واهتمامهم فقط بالروحانيات.
– التناقض بين إيمانهم المسيحي وسلوكهم، فيؤمنون بالآخرة ولكنهم يتكالبون على الدنيا وملذاتها خلافاً لرجائهم. وقال عنهم نيتشه: »لا يظهر على وجوه المسيحيين أنهم نالوا أو سينالون الخلاص«.
– اعتبار المسيحيين للدين وكأنه شركة تأمين »يؤمّنون به على آخرتهم« بفضل حضورهم قداس الأحد وإعطاء حسنة لفقير والانقطاع عن اللحم يوم الجمعة!!
6) التطلّعات البشرية وموقف المسيحيين منها
هنالك تطلعات بشرية حقة وواجبة على المسيحيين أن يتطلعوا إليها ويساهموا في تحقيقها. وهي الجزء المحسوس والأرضي من الرجاء المسيحي:
– تطلعات اقتصادية: تحسين أوضاع الدول النامية والأفراد.
– تطلعات ثقافية: محو الأمية.
– تطلعات سياسية: استقلال الفئات العرقية والدينية.
– تطلعات علمية: غزو الفضاء وحل مشكلات الطاقة.
– التطلعات إلى السيطرة على الموارد الموجودة في الأرض لخدمة الإنسان. وهذا مأرب جيد إذ أن الله أورث الإنسان الأرض وطلب إليه أن يخضعها لسلطانه.
أما موقف المسيحي منها فهو لا يستطيع أن يقف مكتوف الأيدي بحجة أنه يتطلّع إلى مجيء المسيح في نهاية العالم. فالمسيح في الدينونة سوف يديننا على المحبة وعلى مشاركتنا في بناء حياة كريمة هنيئة لأنفسنا ولإخوتنا البشر. وإطعام الجياع وكسو العراة وزيارة المرضى والسجناء المذكورة في الإنجيل ليست إلا نماذج مبسّطة للأعمال المتنوعة والملّحة المطلوبة من المسيحيين. ويقول قرار المجمع الفاتيكاني الثاني »الكنيسة في عالم اليوم«: »غير أن انتظار الأرض الجديدة بدلاً من أن يخفف من اهتمامنا باستثمار هذه الأرض، يجب بالأحرى أن يوقظها فينا: فجسم العائلة الإنسانية الجديدة ينمو فيها، راسماً الخطوط الأولى للعالم الآتي« (رقم 39). والحاضر الزمني يهم المسيحي كما أنه مهتم بالمستقبل. ويلّح عليه الحاضر بالعمل من أجل قضايا الساعة. وبالإضافة إلى ما ذكر على المسيحي أن يهتم بالدفاع عن حريات الآخرين كلما رأى أنها مكبوتة وأن يعمل ضد الظلم أينما كان ولإحلال المساواة بين الناس. والدافع لذلك هو الأمر الصادر عن المسيح وقوة رجائنا به، هو الذي سيأتي ليسألنا الحساب. وهذا الرجاء يجعلنا نتحرّك للعمل بالرغم من صعوبة الظروف. وهل أقوى من رجاء صاحب الحقل الذي عندما وجد الزؤان بين القمح لم ييأس بل صبر بانتظار الحصاد لينقي بيدره… والمسيحي لا ييأس من قوى الشر العاملة والمتحركة حوله، لأنه يعلم بمن آمن وبمن يعطيه الغلبة على الشر. وكلمة المسيح لا تزال ترن في أذنه: »ثقوا لقد غلبت العالم«.
7) خطايا ضد الرجاء
أ- أ- اليأس:
هو رفض السعادة الأبدية بسبب الشعور باستحالة البلوغ إليها. وتلك خطيئة يهوذا. وهذا لا يعني حتماً فقدان الإيمان بالرحمة الإلهية إنما التعامي عنها وتجاهلها وعدم طلبها عن كبرياء أو ظناً بأن الإثم أثقل من أن يُغفر. واليائس يضع نفسه في موقف خطير، لأنه يستبدل سعادته الأبدية بالسعادة السهلة المنال فيستسلم للرذيلة تاركاً كل الأعمال الصالحة التي لا تحرّك وتراً فيه. إن اليأس هو فقدان الحافز والزنبرك لكل أعماله الصالحة… وفاقد الرجاء هو فاقد للمحبة أيضاً. وبإمكاننا معالجة خطيئة اليأس من خلال:
– التأمل في الإنجيل ولاسيما في أمثال الرحمة الإلهية في إنجيل لوقا (الابن الضال، اللص اليمين…).
– التأمل في آلام المسيح والقيام بصلاة “درب الصليب”.
– التأمل في سعادة السماء.
– قراءة حياة الخطأة التائبين.
– الصلاة لمريم العذراء ملجأ الخطأة وأم الرجاء.
– الاهتمام بتنمية الفرح لأن ذلك أفضل علامة على رجائنا. ولا ينمو الرجاء في جو كآبة وسوداوية. وكيف لا نفرح ونحن نعلم بأن الله الذي سنسعد بمشاهدة وجهه في السماء هو الآن معنا في الإنجيل والقربان وفينا بنعمته وحضوره العجيب؟
ب- الإدّعاء:
هو الاعتماد، من جهة، على القوة الذاتية فقط دون الاعتماد على نعمة الله. ومن جهة أخرى أنه الظن بأننا سنحصل على رحمة الرب والسعادة الأبدية بدون الحاجة إلى التوبة. وهذا يعني الإيمان المفرط برحمة الله دون الإيمان بعدله. قال الإكويني: »الاعتقاد بالرحمة وعدم إقامة وزن للعدل الإلهي ليس من باب الفضيلة إنما هو غباء«. ذلك أن الادعاء هو احتقار لعدل الله. أما خير علاج لهذه الخطيئة فهو أن نتذكّر هذه الآية: »أن الله لا يُستهزأ به«.
ج- التفاؤل الأعمى:
الظن بأن الأمور ستهون وأن المشاكل تجد حلاً بنفسهـا بدون دفع أي ثمن من الجهد والعناء. وقال لهم المتنبي: تريد من لقيان المعالي رخيصة ولابد دون الشهد من إبر النحل
د- قلة الثقة:
وهذه المرة ليست بقدرة الله عامة وإنما بفعالية الصلاة وبفعالية الالتجاء إليه تعالى في التجارب والكروب. ويحتاج أولئك الأشخاص إلى تعميق إيمانهم بالله وبقدرته، إلى اختبار الصلاة والتذكّر بأن »كل شيء يؤول لخير الذين يحبون الله« وأنه تعالى »يكتب كتابة مستقيمة بأسطر منحرفة«.