مقدمة:
نقرأ في سفر التكوين وفي قالب قصصي وشعري كيف خلق الله الكون والإنسان. قال الله “ليكن نور”، فكان نور. وهكذا خلق الجلد والمياه واليبس والنبات والحيوان بقوة كلمته، “ليكن” فكان. ولكن الله عندما خلق الإنسان قال: “لنصنع الإنسان على صورتنا ومثالنا …خلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكراً وأنثى خلقهم، وباركهم الله وقال لهم: انموا واكثروا واملأوا الأرض …(تك 1: 26-28).
ومهما يكن من أمر الصور الشعرية التي رافقت رواية الخلق هذه، فإن هناك أمراً لا يقبل الشك، وهو أن الله هو الذي خلق العائلة، بخلقه الإنسان ذكراً وأنثى وأمره لهما بالتنامي والتكاثر والتناسل. خلق الله العائلة إذاً على صورته، “على صورة الله المثلّث الأقانيم الذي يتميّز بوحدة لا تنفصم، بوحدة هي في حركة حب أزلي بين ثلاثة. فالعائلة مقدسة لأنها أولاً من خلق الله، وثانياً لأنها على صورة الله وثالثاً لأنها مصدر الحياة وينبوعها ، ومعلوم أنه ليس هناك ما هو أقدس من الحياة.
يشدد دستور عقائدي في الكنيسة على دور الأزواج والوالدين المسيحيين في عيش القداسة فيقول:” عليهم باتباعهم الطريق الخاص بهم أن يعاونوا بعضهم بعضاً في النعمة، والأمانة، والحب طول حياتهم وأن يشتركوا بمحبة الأولاد الذين اقتبلوهم من الله في الحقائق المسيحية والفضائل الانجيلية. وفي ذلك يعطون للكل مثلاً في الحب سخياً وثابتاً، ويصيرون شهوداً لخصب أمنا الكنيسة ومساهمين فيه.”(دستور عقائدي في الكنيسة : 41 “الأشكال العديدة لممارسة القداسة)
1. مميزات العائلة المسيحية.
الديمومة:
ما تتميز به العائلة المسيحية هو الديمومة. فالرباط الذي يشد الرجل الى المرأة هو رباط مقدس غير قابل للانفصام. والسيد المسيح عينه رفع عقد الزواج بين الرجل والمرأة الى مقام سر. وهو استشهد بقول الكتاب : “فلا يكونان بعد اثنين، بل جسد واحد، وأضاف قائلاً :”ما جمعه الله، فلا يفرّقه الإنسان” (متى : 19 : 6)
الوحدة :
العائلة المسيحية تنشأ انطلاقاً من اتحاد رجل وامرأة في رباط مقدس هو رباط الزواج، الذي يجعلهما يعيشان في شراكة زواجية تدوم دوام الحياة ، وتقوم على الأمانة بينهما وعلى الوفاء المتبادل، وعلى المساواة في الكرامة الشخصية، وتتغذى (هذه الشراكة) من عزمهما على تقاسم حلو الحياة ومرها ، ومن إرادتهما على التقدم كل يوم نحو وحدة أكثر غنى بينهما على كل الأصعدة ، أي على صعيد الأخلاق والقلب والعقل والإرادة والروح والجسد.
الإنجاب :
إن أولى غايات الزواج هو الإنجاب الذي به تنشأ العائلة وتكتمل وتستمر، فكلمة نعم التي يقولها العروسان في احتفال الزواج تعبّر في ما تعبّر عن حقيقة الحب الذي يوحدهما. هذه الوحدة تعمل على الانفتاح على حياة جديدة، على شخصية جديدة ، إذ يصبح بإمكانهما أن يعطيا الحياة الكائن شبيه بهما، ليس فقط بالجسد بل بكونه هو أيضاً على صورة الله ومثاله.
يؤكد المجمع الفاتيكاني الثاني ” أن الزواج والحب الزوجي يهدفان بطبيعتهما الى إنجاب الأولاد وتربيتهم. والأولاد في الواقع أثمن عطية يمنحها الزواج. وهم يساهمون بقسط وافر في تحقيق خير الوالدين …(دستور راعوي في الكنيسة وعالم اليوم عدد 5.) لذلك فالإنجاب يعتبر مسؤولية الوالدين أمام الله والضمير والمجتمع ويقتضي له ايمان عميق بالله، وطاعة لارادته، وشجاعة كبرى ورغبة في المساهمة في خير المجتمع وازدهار الكنيسة.
عندما نقرأ في نبوءة ارميا :”قبل أن أصورك في البطن عرفتك وقبل أن تخرج من الرحم قدّستك” نفهم أن سلالة الشخص ، المولود الجديد ، مرتبطة قبل كل شيء بأزلية الله، ثم بعد ذلك بالأبوة والأمومة البشريتين اللتين تتحققان في الزمن. وبهذا المعنى يقول المجمع عينه : “حين يقوم الزوجان بواجب إنجاب الأبناء وتربيتهم يدركان أنهما يعبران عن حب الخالق ويعاونان فيه. لذلك يجب عليهما أن يؤديا هذا الواجب بكل تقدير لمسؤوليتهما كبشر وكمسيحيين”(المرجع عينه)
غير أن غاية الزواج لا تنحصر في إنجاب البنين، بل ترمي الى تمكين الزوجين من التضامن لتذليل مصاعب الحياة، على اختلافها، والى دفع المخاطر التي تتهدد كلاً من الرجل والمرأة . لذلك يقول المجمع :” يبقى الزواج قائماً محتفظاً بقيمته وثباته كشركة تشمل كل الحياة، حتى ولو لم تتحقق أمنية الزوجين – التي غالباً ما تكون قوية – في انجاب الأولاد (المرجع عينه)
التربية :
يفترض الإنجاب على الوالدين واجب تربية بنيهما ، كما أن التربية حق لهما يتقدم حق أي كان. وقد أبان المجمع المسكوني الفاتيكاني هذين الواجب والحق بقوله : ” إن الوالدين بإيلادهم في الحب إنساناً جديداً ، يأخذون على عاتقهم مهمة مساعدته مساعدة فعّالة على أن يحيا حياة إنسانية كاملة… وبما أنهم أعطوا أولادهم الحياة فيقع على عاتقهم الواجب الخطير جداً بأن يربوهم، ويجب، بهذه الصفة، الاعتراف بأنهم المربون الأولون والرئيسيون لأولادهم.”(دستور راعوي في الكنيسة وعالم اليوم : 48 – 49 – 5. – 51- 52).فمن واجب الوالدين خلق الجو العائلي الذي تسوده المحبة والاحترام تجاه الله والناس، هذا الجو الذي يساعدهم على تربية أولادهم تربية كاملة، فالأسرة هي المدرسة الأولى للفضائل الإنسانية والاجتماعية والمسيحية أي أنها الكنيسة البيتية التي تشترك في عمل الله الخالق وفي خلق جو يمكّن الشخص البشري من بلوغ كماله.
3. فضائل العائلة المسيحية
معلوم أن الحياة العائلية لا يمكن أن تستقيم وتستمر وتزدهر ما لم تتأسس على قواعد ثابتة من الفضائل الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية والإنجيلية. والعيلة التي يخلو جوّها من الفضائل لا تلبث أن تتفكّك وتزول. ومعلوم أيضاً أن تفكّك العائلة هو من أكبر الآفات التي تصيب المجتمع الانساني.
الحب الزوجي :
يشير المجمع الفاتيكاني الثاني الى أن السيد المسيح “يثبت مع الزوجين المسيحيين لكي يستطيعا بعطائهما المتبادل أن يحب أحدهما الآخر بأمانة ثابتة، كما هو أحب الكنيسة وبذل ذاته من أجلها. فالحب في الزواج هو عطاء متبادل واتحاد وتعاون لكي يصل الزوجان الى ذلك الغنى الروحي والإنساني والى تجسيد تلك الصورة للحب الالهي.
والحب الزوجي هو في النهاية ما يبقى بعد أن يكون الزوجان قد قطعا شوط الحياة معاً وربيا بنيهما ووفرا لهم التربية والتوجيه ما يمكّنهم من شق طريق المستقبل، عندها يجدان نفسيهما وكأنهما يبدآن حياتهما مجدداً في جو من الحب الصافي والتعاون المخلص ولقد أشارت رسالة راعوية حول الزواج والعائلة الى هذه الحقيقة جاء فيها : ” أقول للأزواج الذين يشعرون أحياناً بالقلق عندما يكون أبناؤهم قد كبروا وأصبح البيت تقريباً فارغاً : لستماً فقط أماً وأباً . أنتما أولاً زوجان. هل تعرفان أن تجددا ما يجعل حياتكما الزوجية سعيدة كما كانت في بدايتها ؟”
يشيرما يسودها من ج قداسة الحبر الأعظم في رسالته الى الأسر المسيحية الى هذا الحب فيقول : الحب الزوجي نتعلّمه في الصلاة حيث يعمل الروح القدس ويفيض هذا الحب في قلوب الأزواج المستعدين لأن يصغوا الى كلام الله ويحفظوه، هذا الحب الذي هو المصدر الحقيقي لوحدة الأسرة وقوتها.
الثقة المتبادلة :
إن ما يجعل الحياة العائلية أنيسة مستحبة هو و ثقة متبادلة بين الزوجين وبين هذين والأبناء ، فإذا انتفت الثقة أصبح الجو العائلي جحيماً. هذه الثقة تتوفر بالممارسة اليومية وتبنى على الصراحة التامة وانفتاح الزوجين أحدهما على الآخر واشتراكهما في الراحة وفي التعب وجلوسهما معاً في أوقات كثيرة يخلقانها وتتميمهما معاً الواجبات الاجتماعية والدينية وغيرها.
التضامن :
التضامن الذي يجب أن يقوم بين مختلف أفراد العائلة يعتبر بمثابة اللحمة التي تحفظ هذه العائلة متماسكة في وجه ما يعترضها من مصاعب ومشاكل. والتضامن سنة الطبيعة البشرية، فالإنسان بعمله يبذل من ذاته بل يبذل ذاته لا في سبيل نفسه فقط إنما من أجل الآخرين أيضاً : وكل من أفراد العائلة يجب أن يعمل بالتالي ليؤمن حاجات العائلة التي ينتمي اليها. ولا يكون التضامن بين أفراد العائلة سليماً الا إذا قام على الاحترام المتبادل والمحبة الصافية المجردة التي ترتضي كل تضحية في سبيل من تحب.
3. الأخطار التي تهدد العائلة المسيحية :
هناك أخطار عديدة تهدد العائلة المسيحية اليوم .ولا شك أن الكنيسة تشعر بألم عميق عندما نرى أن بعض الأزواج يذهبون آلي المحاكم الكنسية ليعلنوا بطلان زواجهم بعد أن يكون قد انقضى عليه عشرون عاماً، وأحيانا أكثر.
ومن الأخطار التي تهدد العائلة وربما تصل بالزوجين الى هذا المصير أورد ثلاثة فقط نظراً لأهميتها : الاقبال على الزواج دون استعداد كامل لما ينتظرانه من مسؤوليات. والأنانية والغيرة القاتلة . علماً أن الأخطار تتكاثر مع الأيام لا سيما مع انفتاح المجتمعات بعضها على بعضها وما تنقله وسائل الاتصال الحديثة من فنون الشر والأذى طمعاً بالمكاسب المادية أو استهتاراً بكل القيم.
الإقبال على الزواج دون استعداد:
هذه الظاهرة تفشت مؤخراً خلال سني الحرب وبعدها حيث بات الشبان والشابات يتعارفون بسرعة ويقررون بخفة الإقبال على الزواج، ولا يمضي غير القليل، حتى يقرروا الانفصال بالسرعة عينها وبالخفة عينها .
إن الزواج سر مقدس رسمه السيد المسيح، لا بل انه السر الأول الذي رسمه ليظهر الى الذين يقبلون على الزواج ما هم بحاجة اليه من قوة ووعي لتحمّل مسؤوليات كبيرة يرتبها هذا السر العظيم عليهم. فينبغي الاستعداد لتقبل هذا السر ولمستلزماته ومفاعيله استعداداً جدياً ولائقاً. لذلك فالكنيسة ترحب دائماً بالجهود التي تبذل من أجل إنشاء مراكز للإعداد للزواج في الأبرشيات وبعض الرعايا وتشجع القائمين بها والشبان والشابات المقدمين على الزواج على متابعة ما يلقى في هذه المراكز من محاضرات وتوجيهات في مختلف الشؤون العائلية من دينية وأخلاقية واجتماعية وطبية.
الأنانية:
إن جمال العائلة وقوتها يكونان بتماسكها، ولا تتماسك العائلة إلا إذا نبذ كلمن أفرادها ما يرضيه شخصياً ليبحث عما يرضي سواه من أفراد عائلته. ولقد قال القديس بولس :” لا يسعيَنّ أحد الى منفعته بل الى منفعة غيره…” وهناك أنانية مزدوجة الى جانب الأنانية الفردية ، تقوم على أن يسعى الزوجان الى ما فيه إرضاء ميلهما الى الراحة وتجنب المسؤولية والتهرّب مما يرتّبه الإنجاب عليهما من واجبات ومسؤوليات. في هذا الاطار يندرج اللجوء الى وسائل منع الحمل أو الى الإجهاض بكثير من الأنانية وبكثير من الخفة والاستهتار والجهل لقيمة الحياة ولكرامة الشخص البشري ولما ينطوي عليه اللجوء الى هذه الوسائل من مضاعفات صحية ونفسية ومن عواقب على الصعيد الاجتماعي والروحي.
الغيرة :
الغيرة غالباً ما تكون عنصراً يدخل الشقاق الى العائلة ؛ وهي إذ تحمل الشريك على مراقبة شريكه وتتبّع حركاته وسكناته، وأقواله وأعماله، إنما تدل على قلة ثقة بالآخر لا بل على نزعة تملّك الآخر وكأن على أحدهما أن تذوب إرادته وحريته وجوانب عديدة من طباعه وشخصيته في الآخر، وهذا ما يتنافى مع مفهوم الزواج المسيحي الذي ، وإن كان يعتبر أن الاثنين يصيران جسدأ واحدأً ،فهو يحترم ذات الشخص المستقلة وحريته وكرامته.
والغيرة تخلق في البيت جواً ضاغطاً، ينتهي بالجدل والشجار، وفي غالب الأحيان بـالانفصال مع ما يستتبع ذلك من أخطار على الزوجين وعلى الأولاد في وقت معاً.
ختاماً:
إن الحياة الزوجية تتطلّب جهداً مستمراً يقوم به كل من الزوجين للبقاء على المستوى المطلوب من المسؤولية ومن الأمانة والمحبة والاتزان والثقة المتبادلة. وبكلمة لعيش السعادة في حياتهما الزوجية.
موضوع منقول