الأحد الرابع من زمن السنة العادي: التطيبات! هل لها معنى اليوم!-الأب داني قريو السالسي
الأحد الرابع من زمن السنة العادي: التطيبات! هل لها معنى اليوم!
الأب داني قريو السالسي
يقدم لنا متى الرسول هذا الأحد موضوع التطويبات. إنَّ التطويبات هي رسائل يسوع لنا، هي كتاب حياته، هي مذكراته الشخصية. من خلالها نرى صورة الله وصورة الانسان. يقولون من هو الله ومن هو يسوع الإنسان في نفس الوقت.
في العهد القديم وعلى جبل سيناء، أعطى الله عشرة وصايا لموسى، هي بمثابة توصيات الله لشعبه. إن الوصايا تقول: “ماعلينا فعله وماعلينا تجنبه”. هنا نجد يسوع يصعد الجبل ويعطي التطويبات “فلما رأى الجموع، صعد الجبل وجلس، فدنا إليه تلاميذه فشرع يعلمهم”. هي الوصايا التسع، الطبعة الجديدة من الوصايا العشر. هذه الطبعة الجديدة: لا تقول: “ما علينا فعله وما علينا عدم فعله! إنما كيف يجب أن نكون!”.
العظة على الجبل تقول: “كيف يمكنك أن تكون سعيداً، وأنك تستطيع أن تكون سعيداً، والكل أيضاً يستطيع هذا!”. الموضوع هو ليس كمن يشتري سيارةً، أو فيلّةً أو أرضاً. أعطي مالاً فأحصل على ما أريد، هذه سنّة الحياة! أما التطويبات فهي أمرٌ آخر. ليس أن أعطي شيئاً، إنما أن أعطي ذاتي. هنا لا يوجد شيء ألعب به، هنا ألعب بحياتي! هنا لا يوجد ما أعمله، هنا يوجد ما أنا عليه! ما أعيشه!.
العظة على الجبل تبين لنا، كيف يمكننا أن نكون. إننا، وللأسف، نسمع من حولنا أصوات كثيرة تقول: “مشّي حالك، لا خيار أمامك سوى هذا، كن راضياً بما أنت عليه، اترك أحلامك جانباً…” أما العظة على الجبل فتقول شيئاً مختلفاً تماماً، تقول: حلِّق، سر في العمق، انطلق لأنك من أجل هذا خلقت… هذا ما يريده الله لك، وهذه هي سعادتك الحقيقية.
لايمكنك التصور: كيف يمكنك أن تعيش! كيف يمكن أن ينبض قلبك! ماهو حجم السعادة التي ستنتابك! ماهو نوع الحياة التي يمكن أن تعيشها! الحيوية، النشاط، الايجابية التي ستغمرك! المشاعر الأفكار، الاحلام التي ستراودك… “… فإن لهم ملكوت السموات… فإنهم يرثون الأرض… فإنهم يعزون… فإنهم يشبعون…، يشاهدون الله… يرحمون… فإنهم ابناء الله يدعون… فإن لهم ملكوت السموات”. إن الكم الهائل من الناس الذين لا يعيشون هذا، أو يستهزئون به، وهذا ما يؤكد ضخامة الحزن الذي يعيشونه.
عظة الجبل لا تقول: “إنّ الصعوبات ستختفي أو الصراعات ستزول” لأنه لا يمكن العيش دونها! عظة الجبل لا تعلم كيفية تجنب الأزمة إنّما طريقة مواجهتها! عظة الجبل لا تعلم الانسحاب من الألم، إنّما التعبير عنه! عظة الجبل لا تعلم الهروب من بعض المشاعر إنّما عيش كل أنواع الأحاسيس والمشاعر…
عظة الجبل ليست وصفة سحرية لمواجهة أي نوع من أنواع الألم! إنّما دعوة لعدم الخوف، دعوة للثقة بالله الذي يقول: “لا تخف، أنا معك”. إن كلمة “لا تخف” تتكرر في الكتاب المقدس 366 مرة، لكل يوم من السنة واحدة، وهناك أيضاً واحدة إحتياطية. نحن في سنة “أ” التي هي مكرسة للإنجيل بحسب متى، الذي هو انجيل “انا معك” يبدأ بالعمانوئيل “الله معنا” وينتهي “هأنذا معكم حتى إنقضاء الدهر” وفي وسطه يقول: “كلما أجتمع اثنان باسمي أنا في وسطهم”. أنا معك، لا تخف!!
إنّه لمن الوهم التفكير أننا نستطيع أن نعيش دون صعاب، دون سوءٍ تفاهم، دون خلافات… لأن طباعنا، وخاصة في هذا العصر، هشة. إنّنا لا نشعر أنّنا نمتلك القوة الكافية لتحمل هذه الصدمات، وبالتالي نحاول تجنبها، ونحلم بعالم من دون صعوبات. أما التطويبات فتعلمنا أن نعيش بطريقة أخرى، بطريقة عميقة، متأصلين بجذورنا؛ حتى في خضم الصعوبات، في عمق الألم، يقولون: لا تهرب. يقولون: عشها! لأنّها حتى في هذا هناك معنى! عشها لأن كل هذا هو لك، ويجب أن تتعلم شيئاً مما يحدث! عشها ولا تفزع لأن الله حاضر دائماً ولن يتخلى عنك. عشها وسترى أن الأمر كذلك!
كثيراً ما نخاف من مواجهة الألم، الصعوبة، الإهانة… لأننا قد لُسعنا مرة ولا نريد أن تتكرر. ونقول: كل هذا هو حبر على ورق، كل هذا هو كلام في الهواء. نقول هذا، لأننا لم نختبر ما معنى عيش التطويبات! نقول هذا، لأننا لم نحاول أن نعيش بالملء كل ظروفنا، ونعمل كمن يتذوق الحلوى بأصبعه ويقول لا طعم لها.
التطويبات ليست شعراً يمجّد الفقر والبؤس والحزن والاستسلام، والدروشة… عظة الجبل لا تقول: إنّ الفقر شيء جميل. إن الفقر هو بؤس. الفقر ليس خيراً، إنّما هو واقع موجود في الحياة البشرية. عظة الجبل لا تقول: أن نكون مضطهدين هو أمر حسن! كلا، هو ألم مرير وقاسٍ. ومن يبحث عنه هو سادي ومريض. ولكن من النادر أن نعيش في مجتمع الكل يحبنا فيه، ويقدرنا، ويتمنى لنا الخير! عظة الجبل لا تقول: البكاء من الأمور المستحبة. كلا، البكاء هو نتيجة جرح مؤلم. ولكن البكاء يغيرنا، ينقينا، يطهرنا. إن البكاء هو الشكل الطبيعي للتعبير عن ألمنا، عن حزننا، عن نواحنا وعن فقدان عزيزٍ علينا. هو التأقلم مع الواقع. ليس جميلاً لكنه ضروري (والإختلاف واسع بين المفردتين).
عظة الجبل لا تقول: أغمض عينيك وتكبد الآثام. إنّما تقول علينا أن نتحلى بالرحمة، أن نمتلك قلباً كبيراً يحكم على العمل لا على الانسان، على التصرفات لا على الشخص. تقول: إنَّ الانسان يتصرف هكذا لأنه مملوءٌ خوفاً وقلقاً. لهذا نجده عدوانياً وغاضباً دائماً. هذا لا يعني أن نصمت. عندما يجب أن أقول “لا” عليّ أن أقولها وبجرأة أيضاً، ولكن وجدانياً أنظر الى الشخص وأقول في قرارة نفسي: مسكينٌ هذا الشخص، فهو يعيش في حرب داخلية، هو غير مستقرٍ عاطفياً ويتخبط بين الهم والغم.
التطويبات ليست وصايا، أو أوامر. يجب أن تعيش هكذا وحسب، ولا خيار أمامك! كلا. التطويبات هي إقتراحات: “أنت تستطيع أن تعيش هكذا!”. هي إمكانية: ممكن أن تختارها أو لا. القرار يعود لك.
التطويبات ليست حلولاً لمشكلاتنا: “ماذا يجب أن أفعل لأكون مسيحيا صالحا؟”. هي مسيرة:
1. بامكانك أن تكون كما أنت! المجتمع يقول: “بإمكانك أن تعيش فقط إذا تأقلمت ولم تزعج أحد”. الله يقول: “خلقتك هكذا، وهذا حسن”. كثير من الناس يتأقلمون (يرتدون الأقنعة) ليكونوا مرغوبين، مقبولين، وينالوا المديح والثناء. هناك من تأقلموا حتى نسوا طباعهم، ونسوا من هم. أذكر مرة حين كنا في روما أن واحداً من أصدقاءنا ذهب ليشتري صندويشاً شرقياً، وابتعد قليلاً عن الجامعة وهو يبحث، علّه يجد طلبه، ثم ابتعد أكثر، ثم أكثر، حتى تاه. كثيراً ما يحدث لنا الشيء نفسه. لتجنب المشاكل، لعدم خلق مشاحنات وصدامات مع من نحب، نرضي الجميع (مع أننا نعلم أن ارضاء الجميع مستحيل ويسوع نفسه لم يستطع أن يرضي الجميع، ومع هذا نحاول!) وهكذا نبتعد رويداً رويداً عن أنفسنا حتى نتوه، ولا نعي بعد من نحن؟ وماذا نريد؟ وما هو الأفضل لنا؟ هناك من ابتعدوا عن أنفسهم حتى فقدوا أي شعور، فقدوا كل إحساساتهم.
كن ذاتك، كن ما أنت عليه، لأنه أن تكون آخر (مقنّعا) هو أكبر فشل يمكن أن تجنيه. عش حياتك، لأنك إن عشت غيرها لن تختبر ولا حتى بصيصاً من السعادة.
2. بامكانك أن تعيش وان لم تحقق نجاحاً باهراً! المجتمع يقول: “لا يمكنك العيش، إن لم تحقق أرباحاً، إن لم تحقق نجاحاً، إن لم تكن شاطراً، فطيناً…”. الله يقول: “لا تقدم لي أي CV” “لايهمني تحصيلك العلمي أو الشهادات التي تملكها، إحبك هكذا كما أنت!”.
هناك العديد من الناس يعملون ليلاً نهاراً، ليسوا قادرين ولا للحظة أن يتوقفوا، هم في اضطرابٍ دائم. وكل هذا يبرر بأنه عمل من أجل الآخر (للبيت، للأولاد، للمؤسسة، للدير…)، لكن وراء هذا يخفون حقيقة مرّة. في أعماقهم يظنون أنّه لا نفع لهم! يظنون أنّهم غير مستحقين الحب. يظنون أنّهم على هذا الشكل سيصبحون ذوي شأن، فيحاولون جاهدين مضاعفة كسبهم ونجاحهم، يحاولون كسب أصواتٍ جديدة، شراء تقدير واحترام الآخر لهم.
فالأم تقول: “سأعمل كل هذا لولدي هكذا أكون أماً حقيقية!” لكن ليس ما تفعلينه هو الذي يجعلك أماً حقيقية. إنّما ما أنتِ عليه، يجعلك أماً حقيقية! “مع كل الخير الذي أفعله للآخرين (للكنيسة، للمركز، للأصدقاء…) تريد أن لا يحبني الله؟”. لا، الله لا يحبك لأنك تعملي كثيراً. الله يحبك لذاتك، يحبك لكيانك. وكل ما تفعليه لن يجعلك أجمل في عينيه.
التطويبات تقول: “لا تستطيع أن تشتري الله! فهو لك، وأنت له، أنت خاصته وجزء منه. لا يجب عليك أن تشتري محبته، فهي مهداة لك. هنيئاً لنا، طوبى لنا إن كنا بهذا الوعي، أنّ السلام الحقيقي، الحب الطاهر هو عطية مجانية لنا.
3. تستطيع أن تعبر عما تشعربه! المجتمع يقول: “لا تعبر عن أحاسيسك، وخاصة الخاص منها، إخفه”. الله يقول: “ما تشعربه، هو لك، هو أنت. دعه يظهر بعفوية، لا تخدع نفسك والآخرين، بل اقبل ما أنت عليه، عش ما يدور فيك. هناك العديد من الناس تعلّموا ألا يَظهروا ضعفاء أمام الآخرين. “إخس ع رجال!” “رجال وبيبكي!”. وهكذا، كي يكونوا أقوياء، حذفوا البكاء من حياتهم. إنّهم ليسوا بأقوياء هم صارمون (والإختلاف واسع بين المفردتين).
إن البكاء هو رد فعل عفوي عن شيءٍ ما أحزننا، جرحنا، أحدث ألماً فينا. هل إذا توقفنا عن البكاء سنكون أقل ألماً أو أقل حزنا؟ لكن بتوقفنا عن البكاء ندفنه داخلنا. مع أن الألم أوالحزن ينازع لأن يخرج، ونحن نسكته، نخرسه، ونقنع أنفسنا أن كل شيء على ما يرام (لانبكي) لكن الألم يصرخ من داخلنا.
أذكر عندما كنت أخاً مساعداً أخدم في حلب، ذهبنا الى مخيم في منطقة جبلية تدعى كسب وصعدنا جبل تشالما، سيراً على الأقدام وعندما وصلنا إلى القمة وكنا نرى الغيوم من تحتنا. قال لنا الأب المرشد: لنقف رتلاً واحداً ولنصرخ بأعلى صوتنا، طبعاً تعجبنا من طلبه هذا، واصابنا نوع من الاستغراب، لكن عندما رأيناه يصرخ بدأنا نصرخ بالعدوى وكان يقول
(بينما كنا نصرخ) أقوى، أقوى ويصرخ معنا. وبعد مضي دقيقتين سقطنا جميعنا أرضاً وانتابنا شعور تام بالراحة والهدوء. وكأن هماً وأزيح عن كاهلنا.
4. مهما حدث فأنا معك! يوما من الأيام رأى أب طفله الصغير يحاول أن يزيح خزانة كبيرة لأن قطع من ألعبه ذهبت خلفها. وكان الطفل يدفع بكل قوته والخزانة لا تتزحزح، كان يكافح، ويصارع من أمام ومن خلف علها تتحرك، لكن لا جدوى. وكان والده يراقب عن كثب طفله، وعندما يئس الطفل، سأله والده: هل استعملت كل قوتك؟ فأجابه وهو يلهث: نعم. فكرر الأب قائلاً: هل استعملت كل إمكانياتك؟ فنظر الولد عابساً قائلاص: نعم! فقال الأب: لا، لم تستعمل كل قوتك. فغضب الطفل وبدأ يضرب الأرض قائلاً: بلى استعملتها ودفعت بكل ما عندي من طاقة ومن قوة. فقال له الأب: لا، فأنت لم تطلب مساعدتي، لأزيحا معك، لأساعدك وأكون معك. إن الصلاة هي إستعمال كل قوتنا.
إخوتي الأعزاء إنجيل التطويبات هو كتاب مفتوح لنرى من خلاله حقيقة العالم وحقيقة الله في آنٍ واحد. التطويبات هي سيرة حياة يسوع ليؤكد لنا رغم كل شيء أنّ الله معنا ولم ولن يتخلى عنا.